منتديات بني بحير بلقرن

البكاء بصمت
سكون عميق ليس سوى صوت تنفسه مع دقات رتيبة لساعة جدارية كان يعد دقاءقها في وحدة بدت له شديدة العتمة.
كان يجلس خلف منضدة مكتبية وعليها بعض الكتيبات ترك احدها مفتوحا وراح ينظر للأفق المغبر مع انبلاج اضواء صباح خجولة :
- انه شبيه بتلك الايام
- قطع عليه تأملاته سعال زوجته وهي تحمل قهوته المعتادة
-الا تنوي الذهاب الى عملك ؟
خلع تظارته ومسح عينه وكان بالخمسين ، ذا وجه ابيض معتدل وشارب ابيض انيق ، اخذ رشفة من قهوته .
-اشعر بتوعك بصحتي .
- هل يحتاج الامر الى طبيب ؟؟.
هز رأسه بالنفي ، واضاف :
-المشكلة تكمن هنا .
واشار الى قلبه .
في الذكريات التي سترافقني للقبر.
شاركته زوجته بتنهيدة وانسحبت ، كان ذهنه يستعيد دقيق تلك الاحداث الخالدة ، كان قد استفاق يومها على انفجارات عنيفة وطرقات مستعجلة ببابه واذا بأبنه البكر :
-ابتدأت الحرب
واجهه بنظرة هادئة :
سرعان ما تجمعت العائلة الزوجة ، الابن البكر ، وولده الأصغر كان قراره النهائي (سأبقى في العاصمة) ونظر لولده البكر :
-سترافق البقية لخارج العاصمه بأنتظار ما يستجد.
لم يوافقوه ولكنهم نزولا لقراره انصاعو لفكرة حفر ملجأ بباحة الدار.
قال وهو يكلمه بضحكة حزينة
-نأمل ان لا نضطر لاستخدامه.
كان يقضي يومه بالتصنت للمحطات الاخبارية بتأمل ويهز رأسه
-هل سينتهي الامر سريعا؟؟؟؟
كان يشعر في فوضى الحرب ودوي الصواريخ وكأن الزمن توقف وفقد معناه كان يعيد مع نفسه :
-في اي متاهة نغرق؟؟
وحينما اتعبه السؤال تمشى بين جدران منزله تطلع لـ زوجته وهي تعد الطعام رغم رعب الحرب .
فيما ابنه البكر مشغول بتهيئة مركبتهم :
-اعمل على جازيتها لعلي اقنعك بترك العاصمة .
رد ضاحكا :
-لا تعرف ، كم هو عنيد والدك .
ومضى يتجول حتى وجد ولده الصغير يبكي بيأس :
-الى اين نمضي؟؟
طالعه بنظرة عتاب:
-الرجال لايبكون .
وفيما هو يأمره بأن يغسل وجهه ، نظر نحوه:
-الشعوب العظيمة بجذورها تلفظ الغرباء
كان متعبا فنطلق للعالم الخارجي زار مدرسته المهجورة الا من حارس قام وصافحه بحرارة .
-الحمدلله على سلامتك.
تجول بين الازقة والشوارع كانت صافرات الانذار تنطلق وسط الادخنه التمويهية المنبعثة من شقوق النط الاسود .
قادته قدماه على ضفاف دجلة وهو يردد اغنية :
على شواطي دجلة مرُ...........
انهمرت دموعه دون شهود تماما كما علمه والده (بأن الرجال لايبكون الا بدمع يذرفونها لأنفسهم ).
-لن تعود لهذه الشوطئ عقبا.
بعد ايام كانت الدبابات الامريكية تخترق الازقة ، فيما جموع هائجة تزحف نحو مؤسسات الحكومة المبادة تعمل نهبا وحق.
اليوم وهو بغربة روحه لا يزال يبحث عن طيفهم المستحيل بأجزاء ذاكرته هنا جلسو ، هنا لعبو ، هنا ضحكو ، ....
لم ينس ابدا تلك اللحظة وهو يودعهما بقلب جزع :
-ترجعان بالسلامة .
ضحك ابنه الاصغر:
-انسيت الشعوب العظيمة تلفظ الغرباء .
في تلك الليلة اعادوهم وفي جسديهما ثقوبا لرصاصات امريكية وعلى شفتيهما ابتسامة ابدية طبع على جبينهما قبلة ، واودعهما بنفسه بقبرين متجاورين قائلا :
-اتمنى ان لا يطول فراقي بكما.
بقي متماسكا ولم يذرف دمعة واحدة طيلة ايام العزاء الثلاثة حتى وداع اخر المعزين كان الوقت قد تجاوز الثانية عشرة مساءا ، قال لزوجته بنبرة حازمة :
-لا اريد ان يزعجني احد سأذهب للمطالعة بغرف المكتبة.
واغلق الباب خلفه بهدوء.....
</b></i>