منتديات بني بحير بلقرن

كل شئ بعضه يضيع. قد تتساقط من حقيبتك عملات صغيرة، أو تضيع
الهوية وجواز الخروج. قد تفقد تذكرتك على باب المسرح. وقد أمسح المقالة هذه فاضطر إلى كتابتها من جديد، وقد تأتي المقالة الجديدة محرومة من جماليات فقدتها
بضياع الأصل.
تضيع الأشياء من عادتها أن تضيع. وليس كل مايأتينا يبقى لنا. قد تفقد صديقا" أو حبيبا" أو شيئا" غالي الثمن.
الخاتم الذي خلعته من إصبعك في الحمام، وبحثت فوق رف الحمام فلم تجده، وفي كل مكان فلم تعثر له على أثر.
الجوال أو النقال سمه كما شئت، فلن يعود أيا كان اسمه_ فمشكلته أنه صغير الحجم، كقلب طفل صغير مليء بالرنين والرسائل التي تصل أو لاتصل، وهو لصغر حجمه يغري الرجل لوضعه في جيب بنطالة. (من أهم مايحسد الرجل المرأة عليه حقيبة يدها!).
وبعض الرجال يشبكونه بسلسلة في حزام بناطيلهم. أما من يفتقرون للحكمة، فيتركونه ينزلق كما شاء من جيوبهم ويضيع غالبا" في التاكسي.
لذلك فبعض الرجال يحسدون بعض الرجال على امتلاكهم سيارة خاصة. لا لشيء، إلا أن الجوال إذا سقط من جيب مغيب منهم، يضمن أن يجده في أرض السيارة، ولايكون تحت رحمة ضمير سائق الأجرة، وحتى إذا كان سائق التاكسي ذا ضمير يقظ، فسوف يضطر صاحب الجوال الضائع أن يدفع له فدية رجوعه الغالي. "والغالي" هنا ليس مجرد مصطلح عاطفي، بل اقتصادي أيضا، فهناك من الجوالات ماهو باهظ الثمن.
أما باهظ الثمن بحق فهو مايدفع ثمنه القلب، مايجتث من الروح وينخلع من العقل كضرس تصل جذوره العصية على الاقتلاع إلى عمق
أعماق الذاكرة.
من منا لم يضع منه شيء لو كان الأمر بيده لقايضه بكل شيء، لتنازل في مقابله عن كل مايمتلك؟. تلك الخطوات المبتعدة التي نشبت بوقعها
المتلاشي بابتعاد صوتها، أن يقترب، وسواء ضاع ماضاع بإهماله منا أو غفلة، أو قضاء قدرا"، فهي نفس الحسرة، وربما نفس الندم.
هناك مايضيع منا بغير إرادتنا، ما هو
فوق إرادتنا أن ننقذه من الضياع، ومع ذلك من طبيعة البشر أن يحاسبوا أنفسهم على ماهو فوق طاقتهم، حين يتعلق الأمر بفقد ماهو
عزيز وغال".
يقولون:"لو كنت..." ، "ربما..." ، كان من الممكن... لولا..." حتى تضيع
الذكرى نفسها. تضيع ذكرى ماضاع وراء ماضاع.
نعم كل شيء يضيع. لكن مايبقى كثيرا" أيضا". يظل لدينا من الأحباب
أو ذكراهم مايكفي لتستدفئ قلوبنا،
وكلما ذبلت وردة، نبتت ألف وردة. ربما ضاع منك خاتم، لكن من أهداك ذلك الخاتم لم يضع. أبقاك الله لك وأبقاك له. وربما مسحت من جوالي رسالة، فكان ذلك حافزا" لي أن أكتب رسالة أجمل منها.
إن الحياة أخصب أنثى في الوجود، فهي لاتكف عن الولادة، تضيع بعض ذريتها، لكن مهما يضيع يولد أضعافه
في كل ثانية. ولادة هي الحياة، ونحن أولادها. وهي تمنحنا حين تأخذ منا. وأينما نسير نجد زهورا" ونبوعا" تنفجر. مباركة هي الحياة، رغم كل شيء. وهابة السرور والبهجة والمرح، مانحة الأحباب والرفاق والخلان. تحرمنا وتمنحنا، تعذبنا وتسعدنا، تورطنا وتنجدنا. فهي صنعة الخالق سبحانة. فيها من كرمه وإنعامه وبسطه ورزقه الكثير
وفيها شر وطغيان وحرمان وفقدان،نعم. لكنها جميلة، لأن خالقها جميل.
وإذا كانت ناقصة بطبعها، يزيدها الفقد والضياع نقصانا"، فإن مولاها الكامل الذي لايعتريه نقص ولا فقدان، وضع فيها من قدرته خاصية الخصب والولادة، ففي مقابل كل شيء يضيع، أشياء تأتينا. بل إن كل شيء يضيع يبقى منه شيء. وانظر في أصبعك. ضاع الخاتم، لكن خاتم أحلى وأغلى حل مكانه. وانظر أنت الأخر في أصبعك، لم يأتك خاتم جديد بعد، لكنك مازلت ترى في أصبعك البنصر ذكرى قديم.. مازال شعاع ألماسة في عينيك.
ما زال كل ما ضاع ومن ضاع يسكن القلب.. فما يهمنا أن خلا البيت والقلب
ملآن؟.