عرض مشاركة واحدة
قديم 12-03-2010, 11:05 PM   #1
متعب البحيري
 

متعب البحيري سوف تصبح مشهورا في وقت قريب بما فيه الكفاية
افتراضي فكشفنا عنك غطائك



في هذة الأيام الشتوية الباردة، يتدثر الناس بمعاطفهم وألحفتهم خشية من أن يتسلل البرد إليهم ويستنجد البعض بالمشروبات الساخنة والأماكن الدافئة حتى يسكنوا ويستقروا ولعل ذلك ليتفكر ويتأملوا فيما تديل عليهم الدنيا من مصائب وفيما يخفيه الحاضر عليهم من معايب، وفي هذة المقالة التي أرجو أن تستمر في المستقبل كأجزاء سنكشف عن غطاء حادثة وصورة من صور التاريخ الإسلامي قد التحفت وتغطت من شدة البرد الحالي، راجين أن يكون فيها من العبرة والفائدة ما فيها، والله دائما من وراء القصد. وسنتعرض في طياتها لحياة فقيه وعالم بذل حياته في سبيل إحياء الدين والسنة، وسنعرّج على بعض ما ناله في حياته من مصائب ومحن، وسيتعرف القاريء على مبتغى إيرادها، دون الحاجة إلى التصريح بها علانية.

ولقد اخترت الطبري كشخصية لهذة الحلقة أذ أنني أشعر برغبة عارمة ودافعة إلى التفكر فيما لحق به من مصائب أمطرها عليه علمائنا الحنابلة في السابق، وأردت الإشارة إلى قصته مع الحنابلة حتى نتبيّن نحنُ الأحفاد الحنبليون ما صنعه أجدادنا بذلك العالم الفقيه الورع، وإني لأعلم بأن قراءتي لهذة القصة ستكون متهالكة فقد يعتريها بعض أخطاء العجلة والتهور غير انني أراها بنظري القاصر قراءة موضوعية شافية لما حدث للطبري بإيجاز غير مخل وبتفصيل غير ممل.

الطبري، من هو الطبري؟ الطبري هو الأمام محمد بن جرير، مؤرخ ومفسر وفقيه يعتبر أكثر علماء الإسلام تأليفا وتصنيفا، ولد في طبرستان وسُمّي الطبري نسبةَ لها وعاش حياة بلغت الخمسة والثمانين سنة بين رحلات واجتهادات وتنقّلات وتدارسات، حتى أصبح من كبار الشافعية، ثم اجتهد لاحقا فأفرد مذهبه الجريري غير أن مذهبه اندثر بمماته، وذلك بعد أن فُقدت مدوناته وتفرق عنها أصحابه وأتباعه.

خدم الطبري الإسلام خدمة عظيمة - أكثر من خدمة علمائنا - فكان من أنشط العلماء تأليفا وتصنيفا، حتى قيل أنه كان يكتب أربعين صفحة كل يوم، فألف كتاب التفسير فصار أعجوبة عصره حتى ان بعض العلماء قالوا في كتابه التفسير: لو سافر رجل إلى الصين حتى يحصل تفسير محمد بن جرير الطبري لم يكن كثيرا. بل كان يرى في أصحابه ضعف الهمة والطلب، فكان يحرضهم ولا يقوموا لتحريضه فيقوم هو بنفسه نيابة عنهم، فروى عنه أنه قال لأصحابه

هل تنشطون لتاريخ العالم من آدم إلى وقتنا قالوا كم قدره فقال نحو ثلاثين ألف ورقة فقالوا هذا مما تفنى الأعمار قبل تمامه فقال إنا لله ماتت الهمم فاختصر ذلك في نحو ثلاثة آلاف ورقة ولما أن أراد أن يملي التفسير قال لهم نحوا من ذلك ثم أملاه على نحو من قدر التاريخ.

قال الخطيب البغدادي أن الطبري أحد أئمة العلماء يُحكم بقوله وجمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره فكان حافظا لكتاب الله عارفا بالقراءات بصيرا بالمعاني فقيها في أحكام القرآن عالما بالسنن وطرقها صحيحها وسقيمها وناسخها ومنسوخها عارفا بأقوال الصحابة والتابعين قل أن ترى العيون مثله.

كان كثير الترحال، فسافر لطلب العلم إلى بغداد وحلّ بها، لكن بغداد كانت غاصة بالحنابلة والذين لا يقبلون الرأي المخالف لرأي فقيههم أحمد بن حنبل رحمه الله، فكان الطبري ينشر مذهبه الذي توصل له وذلك بعد أن لخّص ومحّص أقوال الشيوخ الذين درس على يديهم، وكان من رأيه أن الأمام أحمد ليس فقيها وليس له في الفقه يدٌ وباع، ولكن أحمد بن حنبل معروف بالحديث، فهو محدث عالم بالحديث صحيحه وضعيفه (كما هو كتابه مسند الأمام أحمد)، فحينما صرّح برأيه في بغداد عن الأمام أحمد ضج أتباع الإمام أحمد والذين هم أجدادنا هداهم الله فلم يسمحوا له برأي بل خالفوه ورجموه وأغلقوا عليه بابه، فقط لأنه قال قولا لا يسرّهم، وفي هذا أشارة إلى أن الحنابلة منذ القدم يضيقون ذرعا بالآراء الأخرى ومن باب الموضوعية فهي ليست صفتهم فحسب بل هناك من المذاهب من يسير على شاكلتهم وسنأتي لذكرها بإذن الله.

وصل الطبري إلى بغداد وصنف كتابه "أختلاف الفقهاء" ولم يذكر فيه الأمام أحمد لأنه متيقنا بأن أحمد ليس فقيها إنما محدثا، وضاقت الأنفس الحنبلية بهذا التصرف، فقط لأنه لم يذكر عالمهم من الفقهاء، فسألوه وقالوا: لمَ لم تذكر إمامنا في الكتاب؟ فقال لهم: لم يكن فقيها، وإنما كان محدثا، فاشتد ذلك على الحنابلة وكانوا لا يُحصون كثرة في بغداد فشغبوا عليه وقالوا ما أرادوا (انظر سير أعلام النبلاء للذهبي 14/274) وثارت ثائرتهم عليه وحاربوه ومنعوه من الخروج من بيته ورموه بالحجارة حتى جاء صاحب الشرطة ومعه ألوف من الجند عنه العامه وهم الناس الذين أثارتهم الحنابلة وحرّضوهم عليه وقادوهم في محاربته والكيد له وقد شهد الأئمة على ذلك وأن الحافظ المفسّر الفقيه الإمام الجليل محمد ابن جرير الطبري قد ظلم من قبل الحنابله! فقال أبو بكر بن خزيمة (ولقد ظلمته الحنابلة).

لكن هذا الظلم لم يثن الطبري عمّا هو عليه مما يراه حقّا، فواصل في نشر علومه بين الناس فلم ينكص ويستسلم، بل مضى في نشر مذهب الأمام الشافعي حتى استقل بمذهبه الجريري، ثم ألف كتابا في الرد على الحرقوسية (يعني الحنابلة) ولم يكن في اللفظة سبّة أو مقصد لأن الأمام أحمد بن حنبل رحمه الله يعود نسبه إلى بني حرقوس (انظر تاريخ الإسلام السياسي والديني والثقافي والإجتماعي/ دكتور حسن إبراهيم 3/349) فاشتد الهجوم على الطبري وزاد الظلم والحقد، بل ساهم أيضا الحافظ أبو بكر بن أبي داوود في ذلك أشد المساهمة فحرض عامة الناس عليه فآذو الطبري وأغلقوا عليه داره، يقول الذهبي في السير(وكانت الحنابلة حزب أبي بكر بن أبي داوود، فكثروا وشغبوا على الطبري، وناله أذى ولزم بيته نعوذ بالله من الهوى أهـ)ـ وقال ابن الاثير في الكامل جملة عظيمة قال فيها "وكانت الحنابلة تمنع من الدخول عليه"، كما قال ابن كثير في تعظيم حجم البلاء الذي نزل بالطبري أن من الجهلة من رماه بالإلحاد (تأمل إمام وفقيه كبير عمره 85 سنة يُرجم ويقال عنه مُلحد))، وبرأه ابن كثير من ذلك فقال "وحاشاه من ذلك كله بل أحد أئمة الإسلام علماء وعملا بكتاب الله وسنة الله صلى الله عليه وسلم، وإنما تقلدوا ذلك عن أبي بكر محمد بن داوود الظاهري حيث كان يتكلم فيه ويرميه بالعظائم وبالرفض"

فوقف الطبري صامدا مع رأيه رغم أن كل من حوله يعارضونه ويلفظونه ويكرهونه ويحقدون عليه، ظل صامدا مدافعا عن رأيه وعمره 85 سنة، تخيلوا معي حاله وقد أفنى عمره بين الكتب والشيوخ، وقد أمضى حياته بين التنقل والترحال، تخيلوا شيبته وهو يُطرد ويُرجم ويُمنع من اجتماع الناس عليه، ورغم كِبَره إلا أن الطبري لم يرد أن يموت والحنابلة واجدة عليه، فكتب كتابا مسترضيا فيه الحنابلة وهو في بيته لا يخرج إليهم، كتب كتابا من شدة ضعفه ليبين رأيه وحكمته من قوله، لاحظوا كيف أنه اعتذر لهم مع أنه يرى أن الحق معه!!!

يقول الدكتور محمد خير محمد سالم العيسى في رسالته الجامعية عن الطبري أن "هذا الحقد عليه يصّور مدى المعاناة التي عاناها ابن جرير الطبري رحمه الله، ومدى الأذى الذي لحق به منهم مما حمله على التأليف في الاعتذار منهم، ومجاملتهم بعض الشيء، ونحن نعلم أن كتاب التفسير قد أملاه الطبري كما ذكر ذلك الذهبي في سير أعلام النبلاء وقد تقدم ذكره سنة وثمانين إلى سنة تسعين ومئتين، وهذا يعني أنه أملاه في بغداد في أواخر حياته وكل من طالع في تفسيره يلمس، حقيقة ثابتة لا يمكن تجاهلها وهي أن الحافظ ابن جرير لم يكن راوية حديث وأخبار يؤدي ما يحفظ، بل كان عالما ممحصا للأقوال محققا للآثار لا سيما وأنه من أئمة الإجتهاد"

نعم، مات الطبري مع مغيب شمس الاثنين في بيته حيث عزله الحنابلة، وبقي الحنابلة على موقفهم العدائي منه حتى توفي، بل دُفن في داره ليلا قبل أن تشرق الشمس خوفا من الحنابلة، ولما علم الناس بذلك اجتمعوا من سائر الأقطار ووصلّوا عليه بداره التي دفن بها ومكث الناس يترددون إلى قبره شهورا يصلّون عليه. يقول أبو محمد الفرغاني: لما كان وقت صلاة الظهر من يوم الاثنين الذي توفي في آخره ابن جرير الطبري طلب ماءً ليجدد وضوءه فقيل له تؤخر الظهر تجمع بينها وبين العصر فأبى وصلى الظهر مفردة والعصر في وقتها أتم صلاة وأحسنها، وحضر وقت موته جماعة منهم أبو بكر بن كامل فقيل له قبل خروج روحه يا أبا جعفر (الطبري) أنت الحجة فيما بيننا وبين الله فيما ندين به فهل من شيء توصينا به من أمر ديننا وبينة لنا نرجو بها السلامة في معادنا فقال الذي أدين الله به وأوصيكم هو ما ثبت في كتبي فاعملوا به وعليه ثم أكثر من التشهد وذكر الله عز وجل ومسح يده على وجهه وغمض بصره بيده وبسطها وقد فارقت روحه الدنيا" وقال أحمد بن كامل توفي ابن جرير عشية الأحد ليومين بقيا من شوال سنة عشر وثلاث مئة ودفن في داره برحبة يعقوب يعني ببغداد قال ولم يغير شيبة وكان السواد فيه كثيرا وكان أسمر أقرب إلى الأدمة (السواد) أعين نحيف الجسم طويلا فصيحا وشيعه من لا يحصيهم إلا الله تعالى.


حينما قرأت الطبري أيقنت يقينا بأن الإنسان أو طالب العلم الجديد أمثال الغامدي والكلباني والعبيكان ممن أصدروا فتاوى جديدة سواء بحكم الأغاني أو الاختلاط أو السحر يضيقون ذرعا بما سيلحق بهم إن أفصحوا عن آرائهم المخالفة للرأي الحنبلي، لان مُصابهم مُصاب الطبري، وليتهم عقلوا من حادثة الطبري أن الإنسان مهما أصدر حقا يدين الله به في يوم القيامة فسيُرمى من قومه وسيُطعن من جماعته وسيُلفظ ويُتبرأ منه فقط لأنه خالف رأي العامة.

هذا كما ذكرت كشفُ غطاء لصورة من الصور التي غطّاها التقديس والتبجيل عن أعيننا نحنُ العامة، ولعلها كشفت ما لحق بالإمام الطبري الذي كثيرا ما نسمع عنه ولا نعرف قصته ومعاناته مع أجدادنا واسلافنا الحنابلة الذين ظلموه وآذوه أشد الإذاء، بل رجموه وأغلقوا عليه داره وهو شيخ 85 سنة.

سألتقيكم إن وفقني الله بعلامة أخرى وأظنّه ابن عقيل الحنبلي، الذي خرج من رحم مذهب الحنابلة ومع هذا أوذي من الحنابلة أشد الإذاء والظُلم فقال جملة دامية هي:

أُوذيت من أصحابي حتى طلب الدم!



اعتذر عن الأخطاء الكثيرة التي غابت عني بسبب العجلة والاستعجال، إلى اللقاء في كشف غطاء آخر




التعديل الأخير تم بواسطة متعب البحيري ; 12-03-2010 الساعة 11:21 PM.
متعب البحيري غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس