خُطبة الجُمعة بين الواقع والمأمول!
كلنا يشهد يوم الجمعة، وكلنا يغتسل ويتطيب في ذلك اليوم، لكننا مع الأسف أرى أنني أكذب إن قلت أننا كلنا يتعجل الخُطى إلى المسجد فقط للاستفادة من خُطبة الجمعة ذلك اليوم. نعم، لا أعتقد أن أغلبية الناس في مجتمعنا يأتون سراعاً لسماع الخُطبة، نعم قد يأتون فقط لكسب الأجر وحتى يتم تسجيلهم مبكراً بأكبر القرابين، وحتى لا يقل أجرهم بتأخرهم عن سماع الخُطبة؟ لكنهم لا يأتون فقط ليستفيدون مما سيُعرض في الخُطبة. أستطيع أن أحلف وأغلظ الأيمان أن السواد الأعظم من مجتمعنا لا يأتي إلى المسجد وفي نفسه رغبة جامحة أن يستفيد أكبر فائدة من الخُطبة؟ بل العجيب في الأمر، أن البعض لا يتحدث أثناء الخُطبة ويظل صامتاً "لكسب الأجر وحتى لا تفسد جمعته"، لكن صمته لا يعني بالضرورة انتباهه لكلام الخطيب. مع الأسف الشديد البعض ظن أن حديث الرسول الذي يوصي بالصمت فقط لعدم الاستهزاء بالخطبة أو حتى لا تحل الفوضى والضجيج، ونادراً ما يخطر ببالنا أن الرسول لم يطالبنا بالصمت إلا لنستفيد فائدة من تلك الخُطبة.
الخُطبة هي أداة لا يُستهان بها في ترشيد الناس والبعض يشكك في أهميتها ويرى أن الانترنت والصحف والكتب وغيرها أكثر فائدة ونفعا!!! لم نتذكر مع الأسف أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن لديه في عصره "صحف" أو "كتب" أو "انترنت" أو "تلفزيون" أو "قناة"، لم نتذكر مع الأسف أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يملك أداة توعوية وإرشاديه لجميع الناس في وقت واحد إلا ظهيرة يوم الجمعة حيث يجتمع الناس كلهم. رغم انفرادية هذة الأداة (خطبة الجمعة) إلا أن عصر النبي صلى الله عليه وسلم كان أجمل العصور وأحسنه واتقنه!!!
افتح قلبك معي قليلاً وتخيل الخطبة بلبوس جديد، بإذن الله سأقدم لك شيئاً جديداً لتتفكر فيه، فالتفكر في الأشياء يُكسبنا دائما نظرة جديدة للأمور. اليوم سننظر للخطبة بلبوس جديد وسنتسائل ما اسباب بعد الناس عنها، سأبدأ بتساؤل:
لماذا لا يكون إقبال الناس على الخُطبة بقدر إقبالهم على موعظة في المسجد تستمر من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء؟؟؟
تسائل معي وتعجّب: كيف يمل الناس من الاستماع إلى خطبة مُدتها نصف ساعة، ورغم ذلك تجدهم يتدافعون للاستماع إلى مُحاضرة تبدأ من بعد المغرب وتنتهي مع العشاء (ساعة إلى ساعة ونصف)، بل أحيانا من بعد العشاء إلى آخر الليل (كما في المخيمات).. اتذكر في السابق أننا كنا نفرح ونسعد ايما سعادة حينما نقرأ على باب المسجد أن هناك محاضرة ستقدم بعد صلاة المغرب في مسجد عفاس، والله يا أخوة لا تتصورون سعادتنا بذلك الشيء، بصرف النظر عن عنوان المحاضرة، حتى لو كانت عن التوحيد وعن الفقه بعيدا عن الجنة ومشاكل الناس المعاصرة، لا نزال نجد في أنفسنا رغبة في التسابق عليها. بل أنني أستطيع أن أحلف أن كبار السن من الريان كان يتسارعون لصلاة المغرب في مسجد عفاس للاستماع للمحاضرة، بل حتى النساء في المنازل، كن يجلسن في فناء المنزل يستمعن لصوت الشيخ في المسجد وهو يُحاضر! بل كنت إذا تأخرت بسبب "ترويشة المغرب"، كنت أجد من والدتي غلظة وحرص عليّ أن أشارك مجتمعي الجميل المحاضرة. فمالذي يجعل المجتمع كله في حالة استنفار وتأهب لموعظة (مدتها ساعتين)، وتجده غير مكترث وغير متحمس لخُطبة الجمعة (مدتها نصف ساعة)؟؟؟ هذا التساؤل يدفعنا لاستبعاد مسألتين "الوقت" و"الجمهور"، بمعنى أن المجتمع لا يثنيه "وقت" ولا يبالي بتأخر الوقت وإلا لما حضر للموعظة وهي ساعتين بحماسة تعلوا حضور خُطبة لنصف ساعة؟؟؟ المجتمع بإختصار لا يهمه طول المادة المعروضة، سيحضر كما يفعل في المخيمات لمدة خمس ساعات ست ساعات دون ملل!!! فمسألة أننا نعاني من "جمهور" بسبب ضيق اوقاتهم مسألة لا يُمكن أن تكون سبب في عدم حرصنا على خُطبة الجمعة، في نظري أن السبب يكمن في شيئين رئيسين: الخُطبة والشيخ، وحتى ننجح في كسب الناس لخُطبة الجمعة لابد أن نوفر في الخُطب ذات العوامل التي تتوفر في الموعظة!!! فبهارات الموعظة التي تجذب الجمهور متى ما وضعت في الخُطبة ستجذب جمهور بنفس القدر من الحماسة!!
فالخُطبة إذا كانت عن موضوع جميل وجديد وغير مستهلك، ستجد الناس تُقبل عليها! والشيخ إذا كان مشهور وعالم ومتمكن تجد الناس تكتظ عند المساجد تدافعا للصفوف الأولى!! أرجوك لا تظن أن سبب عزوف البعض عن الاستماع إلى الخُطبة في مجتمعنا تعود إلى أننا لا نملك شيخ مشهور نتدافع لنستمع إليه!!! فعدم توفر الشيخ المشهور ليس سبباً في عزوفنا إطلاقاً (رغم إيماني أن الخطيب الجديد مهما كان علمه سيدفعنا للإستماع إلى بضاعته). السبب ليس في الخطيب أو الشيخ، السبب يكمن في كيف يقوم الشيخ – سواء مشهور أو مغمور – بعرض بضاعته أمامنا؟ وكيف يقنعنا بأن بضاعته ليست كاسدة وبالية إنما بضاعة جديدة ومتجددة حتى نقوم بشرائها.
الناس بطبيعتها تميل إلى شراء البضاعة الجديدة وتقبل عليها، وتولي ظهرها للبضاعة القديمة والبالية!! هناك خُطب بالية منتهية، تجد االخطيب فيها يكرر نفس الكلمات بالضبط في بداية الخُطبة وفي نهايتها بشكل دائم، ولا يغير ولا يجدد في الكلمات ابداً، فأصبحت الخُطبة قوالب تُملا فقط بنزر يسير من الأفكار، مثلاً يعيد مع نهاية الخُطبة الأولى "فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم" ويقول في نهاية الخطبة الثانية "إن الله يأمر بالعدل الإحسان وإيتاء ذي القربى...إلخ"، ولا أبالغ والله إذا قلت أن الناس نيام جميعهم ولا يستيقظون إلا إذا سمعوا "إن الله يأمر بالعدل والإحسان" لأن تلك العبارة إيذاناً بانتهاء الخُطبة!! سؤال: هل سمعتم قط موعظة فيها كلمات معينة بحيث تعرف أنها انتهت فقط بمجرد نطق الواعظ لبضع كلمات؟؟؟؟؟؟ إذا كان ذلك الكلام الثابت في الخُطبة ليس من سنة النبي كما في حال "إن الله يأمر بالعدل" حيث قيل أنها وردت عن "عمر بن عبدالعزيز" فإن الأولى تركها وتجديدها بكلمات جديدة ومتجددة حتى يستمع الناس، وإن كانت من سنة النبي صلى الله عليه وسلم وهذا ما لا أظنه، فلنرددها بين فترة وأخرى حفاظاً على بقاء السنة، ولا نلزم انفسنا بتكرارها!! حالها سيكون كحال القراءة بالأعلى والغاشية للجمعة، يقرأ بعض المشائخ بها مرة ومرات لا يقرأوا بها!! (فالحل التجديد في العبارات دائماً كما في الموعظة).
الحل الثاني أن يقوم الشخص بمخاطبة الناس بطريقة اعتيادية دون سجع متُكلف، البعض يعتقد أن السجع يجذب الأنتباه، والحقيقة أن السجع للعرب العاربة المتذوقة للغة وليس لعرب اليوم، أصبح عرب اليوم تبحث عن الفائدة والكلام العادي كما هو موجود في الموعظة!! بل أن الخطبة الغير مسجعة تُشعر الناس بأن الخطيب يتحدث منهم وإليهم بإرتجال! وانصافاً اذكر أن هناك خطباء يتحدثون إلينا بلهجة بني بحير ونستمع إليهم حينما يتحدثون بلهجتنا لأنه أمر غير معتاد وبات انتباهنا ينجذب إليه (أتذكر كان الشيخ محمد معيض يتحدث عن "ابكربة" وقت ذبح الضحية في محاولة من لدنه لإيصال المعنى للشيبان وكبار السن)!! فالحل أن نسلب الخطيب من مفردة "خطيب" ونكسيه بمفردة "واعظ" مقل في السجع!
الحل الثالث ان تكون الخطبة إرتجاليه وأقرب للسوالف والأحاديث بين الناس بدون ورقة، ما المانع أن تكون خُطبة الجمعة على طريقة الموعظة!! ألا تلاحظون بأن موعظة المغرب أقرب لنفوسنا لأن فيها أسئلة ومناقشات وسوالف وضحك، بينما خطبة الجمعة تشعر من بلاغتها بأنها رسمية ومتكلفة وموجهة للأمة الإسلامية وليس مجتمعنا البحيري. في الحديث، دخل رجل يوم الجمعة والنبي -صلى الله عليه وسلم- يخطب فقال النبي صليت قال: لا. قال: قم فصل ركعتين » متفق عليه، سأسألكم هل حدث أن خطيب في الجُمعة لدينا رأى شاب جلس ولم يصلي تحية المسجد، فأمره بتحية المسجد؟ بالتأكيد لا!! هل تعلمون لماذا لم يتوقف ويأمر الشاب؟؟ لأنه يعلم يقيناً بأن كلمته تلك ستقطع سجع الخُطبة الرسمية؟؟ بل ألا تشعرون بأنه لو فرضاً قالها سيجذب انتباه الناس كلهم إليه وسيجذبني وسيجذبك إليه؟؟؟ سيجذب انتباه الناس إليه لأنه خالف العادة التي نتوقعها في الجمعة، بل لم يتكلف وجعل من خطبته حديث وسوالف أقرب لنفوسنا من البلاغة والسجع. منعطف: اذكر أن خطيب في الغبراء، أوقف خُطبتة ونصح شاب قائلاً "مالذي يضحكك يا فتى؟" ما هي ردة فعلك لو كنت تستمتع لخطبته؟ هل ستستأنف الاستماع إليه طمعا في اصطياد جملة خارجة عن السياق كالجملة السابقة؟؟؟
البعض سيعارض ويقول لا تكن الخُطبة سوالف، وحديث النبي وقصة خطيب الغبراء فقط من باب النصيحة والأمر بالمعروف ولا يمكن أن تكون سوالف!! طبعا حتى خُطبة الرسول كانت تحتاج لسوالف اعتيادية، اسمع: قال أبو عبد الله : والله لقد دخل أبو سفيان بعد فتح مكة على رسول الله وهو في مسجده على منبره ، في يوم جمعة بالمدينة ، فنظر أبو سفيان إلى أكابر ربيعة ، ومضر ، واليمن ، وساداتهم في المسجد ، يزاحم بعضهم بعضا ، فوقف أبو سفيان متحيرا ، وقال في نفسه : يا محمد قدرت أن هذه الجماجم تذل لك حتى تعلو أعوادك هذه وتقول ما تقول ، فقطع النبي خطبته وقال له : على رغم أنفك يا أبا سفيان ، فجلس أبو سفيان خجلا ثم قال في نفسه : يا محمد : إن أمكنني الله منك لأملأن يثرب خيلا ورجلا ولأعفين آثارك. فقطع النبي خطبته ثم قال : يا أبا سفيان أما في حياتي فلا ، وأما بعدي يتقدمك من هو أشقى منك ، ثم يكون منك ومن أهل بيتك ما يكون ، تقول في نفسك ما تقول ، إلا أنك لا تطفئ نوري ولا تقطع ذكري ولا يدوم ذلك لكم ويسلبنكم الله إياه ، وليخلدنكم في النار ، وليجعلنكم شجرتها التي هي وقودها ، فمن أجل ذلك قال الله : ( والشجرة الملعونة في القرآن ونخوفهم ) إلى تمام الآية ، والشجرة هم بنو أمية وهم أهل النار .
فالخطبة كان فيها أخذ ورد وسؤال وجواب إلى غير ذلك، ورحم الله الشيخ بركات، كان يخطب ذات مرة وانساق في مشادة مع أحد الحضور ولم يراعي رسمية الخُطبة بل أخذ يتحدث بطبيعته!
على عُجالة وبسرعة حاولت أن أبين عن الخطبة بعض الواقع الذي تعيشه واقتراح المأمول الذي نرجو أن تبلغه، وأرجو أن أسمع مالذي استفدت عزيزي القاريء من خبطة اليوم، ولعلنا نفرد موضوع اسبوعي نناقش فيه القضايا التي تناولتها خطب بني بحير ونسعى لتطوير أساليب هذة الأداة الفعّالة والارتقاء بها.
تمنيت أن تطول خربشاتي الحالية الآلات الحديثة في المسجد واللابتوب وأدوات العرض لكنني لا أريد أن يتحدث المغرضين بأنني أطلت!! سأرجئها لاحقاً وقد يكفيني البعض عناء سردها وإيضاح أهميتها.
التعديل الأخير تم بواسطة متعب البحيري ; 12-31-2010 الساعة 05:25 AM.
|