في هذه الايام يستيقظ الطالب مثقلاً يجر قدميه متجهاً نحو مدرسته لينهل من معينها كل ما يمكن تحصيله من فائدة ومنفعة، وفي هذه الايام بالتحديد يغفل بعضهم عن طلب العلم بحجة رداءة اداء المدرسة واهتمامها، وفي هذه الايام بالتحديد أيضاً تنفق الأموال وتنفد الاحبار وتسحق الطباشير في ايصال الفكرة لطالب تعسر فهمه لفكرة، وفي هذه الايام ايضاً تنسج الضحكات والهرطقات على لسان الطلبة أًنساً ببعضهم بعضاً، (((((((((((((((((((وفي هذه الايام نهتم بكل طالب دخل مدرسة الفائجة المتوسطة والثانوية وتخرج ولم يحتفى بإبداعه ونجاحه.)))))))))))))
مع هذه المقدمة الموجزة التي أوردتها كإرهاصة لما سأتناوله من موضوع في غاية الأهمية بالنسبة لدي، تذكرت حال اصدقاء لي عشت معهم هذه التجربة الفارطة لحظة بلحظة، وساعة بساعة، ويوم بيوم، عرفتهم وعرفوني وتذكرتهم ولازالوا يذكروني، هم أخوانٌ لي أردت أن اذكرهم في مقالي لأخبرهم بأني لم أنساهم ولن انساهم. تذكرت وأنا منهمك في اعداد بعض مهامي رجلين من قبيلة بني بحير وقفت الظروف عسيرة امام نجاحهم. تذكرت حالهم وكيف أن المواقف الصعيبة بمقدورها أحالة اناس إلى أماكن هم في الحقيقة أحق بارتقاء غيرها. مبدعين في الواقع ولكنهم لم يجدوا الفرص المناسبة ليوسب ابداعهم في مجالهم. تذكرت بلخير علي (الملقب بالقرني) وصالح علي (رجل فاضل يعيش في الغمرة، وهو بالمناسبة ابن عم "محمد علي" أحد ادارة منتديات بني بحير). قد لا تعرفونهم وقد لا تصدقون يا أخوة مدى اعجابي بعقلية هاذين البارعين، فلقد عهدتهما -ولا أزال- محللين بارزين من الناحية الرياضية، لا أقصد "الرياضة" رغم أن بعضهم يجيد ممارستها ولكني اقصد الرياضيات التي وقفت حجر عثرة في طريق معظم طلاب بني بحير وأنا في عدادهم.
رغم أن صديقي صالح علي كان غير مكترث بالدراسة كما يبدو للبعض وذلك أنه يحمل رغبة عارمة في الالتحاق بالسلك العسكري لخدمة وطنه وحمايته إلا أنه كان يحمل وأقول مقدماً ما شاء الله تبارك الله مكينة تحليل رياضية مستعد أن أراهن عليها إن وجد من يراهن، وكما قيل في الرهان تعرف السوابق. قد تفزعون من مبالغتي، ولكن"صالح علي" إن لم تحيطوا خبراً بإبداعه كان يحصد درجات عالية ما شاء الله تبارك الله في مادة الرياضيات بينما هناك أبناء متميزين ومجتهدين كانوا في المقابل يحصدون أقل منها، كنت أتعجب من تلك المفارقة وقتذاك كيف لصالح علي الذي لا يقضي الساعات الطوال في استعادة ما تم تعلمه أن يجيب على اسئلة من العيار الثقيل، والله يا اخوة كان يخبرني بأنه يجيب على الأسئلة استناداً على ما تعلمه في الحصص الماضية دون اللجوء للدفاتر والمذكرات (قولوا ما شاء الله). كنت اتسائل مع نفسي وأسأل اصدقاء صالح كلما طرى ذكر صالح، لماذا ترك صالح الدراسة وتوجه إلى السلك العسكري؟؟؟ لماذا؟؟؟، فكان يذكروا لي مدى رغبته في خدمة وطنه وإكمال متطلبات حياته بشكل أسرع، ولعله يسهر في سبيل الله ليظفر بوعد الرسول صلى الله عليه وسلم "عينان لا تمسهما النار عين بكت من خشية الله وعين باتت تحرص في سبيل الله" فأسأل الله العلي العظيم من على هذا المنبر أن يتمم طلب هذا الشاب وأن يوفقه لما يحبه ويرضاه، فوالله كم تمنيت وتمنيت لو اتجه لقسم الرياضيات ليجد من يدرك مساحة تفكيره وملكة تحليله. لم أقل ذلك إلا ليقيني بإبداع صالح!!
أما ما يخص بلخير علي، فلقد لازمته عشر سنين ونيفا في مدرسة الفائجة ولقد رأيته بلا مداهنة مثلاً بارزاً وعلماً بارعاً في مادة الرياضيات بلا منافس، ولعلي اذكر موقف على سبيل المثال لا الحصر ذلك أن موجهاً سودانياً حضر للاشراف على الاستاذ محمد حسين القرني فكان يحاول تعقيد مسائله لينظر مدى قدرة استيعاب الطالب على احتواء المشكلة في ذهنه دون اللجوء إلى ورقة وكتابة المراحل التي تسهم في حل المشكلة الرياضية، فوالله يا اخوة وقولوا ما شاء الله تبارك الله أن صديق عمري بلخير علي قد اجاب على السوداني في اقل من برهة وقال "الاجابة: واحد" فتلعثم السوداني وتعجب كيف لطالب صغير السن لم يتجاوز الأول ثانوي أن يجري عملية حسابية ذهنية في أقل من دقائق ولم يحتاج إلى الوقوف امام الصبورة وحل المسألة، فلقد كان يظن أن مسألته ستتطلب مجهود ذهني ومحاولات خاطئة ولكنه خاب رجاؤه بإجابة بلخير. بل أن المعلم القدير محمد حسين تعجب من سرعة بديهة بلخير وكم تمنيت ألا يتعجب فإجابته الصحيحة دلالة على قدرة الاستاذ على إيصال المعلومة بشكل محكم ودقيق، فنشكر له تفانيه وإخلاصه في عمله ومهنته.
تذكرت بلخير علي وأنا اعاتبه كلما مرت ذكرى الدراسة وكان طرفاً في الجلسة، لماذا يا بلخير لم تلتحق بالسلك التعليمي، فكان يتعلل بحاجة أهله له كونه يعيش في كنف امه بعد ان ارتحل والده وهو صغير. أسأل الله العلي العظيم من على هذا المنبر ان يلبسه ثوب الرحمة والغفران إنه ولي ذلك والقادر عليه، فلازلت اتذكر ذلك الموقف حين تنادى الجيران بفجاءة خبر وفاته وأسأل الله ان يعين بلخير على مهمته لاتمامها على اكمل وجه.
صالح علي وبلخير علي تذكرتكما وأنا جالس على احد طاولات مكتبة الجامعة وجاشت عاطفتي لتقريظكما بما هو واقع لا مجاملة ولا تزلف إليكما. كنتم مبدعين ولازلتم مبدعين ولازلت أدرك كونكم مبدعين، فأردت أن لا احتفظ بابداعكما في نفسي بل اطرحه للجميع حتى يعلم الناس كم أنتم مبدعين، تذكروا يقيناً أنني لم اذكر ذلك إلا ليعلم الجميع أن الابداع ولد في قبيلتنا لا لينتهي بل ليستمر، فأسال الله العلي العظيم أن ييسر لكما الفرصة المناسبة لمواصلة مسيرتكما إلى جانب الحفاظ على عملكما، فوالله لا أرى مثلاً لكما إلا كحبات السنبلة التي كانت محكمة بأماكنها فهبت رياح الظروف القاسية فتساقطت دون علم صاحبة المحصول (أعني المدرسة) والتي كنت اتمنى أن تكرمكم فالتكريم ليس بحاجة لدفع المبالغ الباهظة غير انه رمزية بسيطة تبقى في نفس كل مبدع علم أن هناك من يقدر ابداعه.
ورغم كل ما ذكرته فيكم إلا أنني على يقين بأن ابداعكم يرى مكانه اينما حللتم ونزلتم، فما هذه الإطلالة سوى ذكرى ذكرتها وأحببت تدوينها في اشادة وثناءً لكما بعد ان تناسوكم معلمو ومثقفو قبيلة بني بحير. شكراً لكم وواصلوا عطاءكم ونحن نصفق
خاطرة نقلتها لكم بعد ان انهينا عام دراسي كامل ذكرني بأيام الدراسة السابقة، سنفرح بلقاء المبدعين قريباً