كان في أرضه ومزرعته . يتدبر أمر معيشته . كان سعيدا بحالته. فأبنه الأكبر للتو استطاع الحصول على وظيفة . أنهت كل السنوات البائسة التي عاشوها بين الفقر ووطئته والدين و سطوته . كان المرتب مقنعا بعض الشيء. فأمن للابن سيارة وحدد لمستقبله مساره , بل فاض ذلك المال ليعين الأب على حرث مزرعته ...
كان كل شيء على ما يرام فالابن متوجه إلى عمله والأب ماض إلى مزرعته , والأم تلهث بالدعوات .... عسى الله أن يحفظك يا ولدي ....
وبينما الأب معانقا مسحاته . مرددا بعض أبياته . أتاه صوت ينادي عماه . عماه . عماه ... هنا شقت عنان السماء دعواته . اللهم اجعله خيرا ... ما بك يا ولدي . قال ابنك محمد وقع عليه حادث ومات ... يا للهول . محمد محمد محمد مات ... هنا تدافعت عبراته وتعالت همساته . وتسارعت نسماته . ولكنه أسكتها بدعواته . اللهم ارحمه ...
ثم قال مع هول الصدمة .... محمد كان معي في الصباح محمد افطر معي . وعطر مسمعي . محمد قبل جبيني , محمد وعدني بأن يكون عويني . في عملي بعد العصر ...
هل ما تقوله صحيح ؟ هل أنت متأكد ؟ نعم يا عماه أنا متأكد ...
هنا ... اهتزت الأطراف وتمايلت الاعطاف . تبللت اللحية البيضاء بتلك الدموع الساخنة التي لم تذرف منذ خمسة وثلاثون عاما .
في معترك هذا الصمت المخيف بدأ كل شيء متغيرا ..
المسحاة سقطت . والعمامة سقطت . والبسمة حزنت . والدمعة ذرفت . والطيور صمتت . والعم ابا محمد على ركبته جاثيا ومن هول المصاب باكيا ولذلك القول محــــــــاكيا ....
المسلمون على اختلاف ديارهم ***** لا يملكون مع العزاء مصابا
و الجاهيلة من وراء قبورهم ****** يبكون زيد الخيل والفلحاءَ
وبعزيمة الواثق بالله المؤمن بقضائه وقدره . جمع العم أبا محمد قواه إن بقي له قوى . نهض وسقط . لكنه عاد ونهض قائلا ... إن القلب ليحزن وان العين لتدمع ولا نقول إلا ما يرضي الرب وإنَا بفراقك يا محمد لمحزونون ...
هنا نظر في الأفق . و نادى بصوت سمعه القريب والبعيد وفهمه الذكي والبليد . وامصيبتاه لكنه أردف هذه الكلمة بقوله إنا لله وإنا إليه راجعون ...
تحرك نحو بيته مثقلا بمصيبته باكيا لفجيعته ...
وجد على الباب زوجته . منكرة مشيته . مفجوعة لدمعته , فاقدة قسوته . مستغربة عودته ..
سألته بخوف ... ماذا حل بك أبا محمد ؟
نظر فيها . ركز في خطاويها . وهي متوجهة اليه متعلقة به مابك ؟ ماذا حل بمحمد ؟ لم يخبرها بشئ ولكنه قلب الام . هنا تبدد صمت ابا محمد . وقال ام محمد . محمد مات مات مات .... احتسبيه عند رب السماء واكثري له من الدعاء واياك وكثر البكاء فوالله وبالله وتالله لن ينفعه في هذه اللحظات الا دعاؤنا ...
على هذه الكلمات سقط ابا محمد . وعلى التراب تجمد ...
لكنه جمع القوى . وحث الخطى . يقوده الم النوى. وحرق الجوى . توجه الى المستشفى ليشارك في تغسيل ابنه وتكفينه . رأه ملطخا بدمائه . قد تغيرت ملامحه وتبدلت معالمه . فنطق لسان حاله قائلا ...
لمثل هذا يذوب القلب من كمد **** ان كان في القلب اسلام وايمان
غسل محمد وكفن .... لم يغسل بالماء وورق السدر . بل غسل بالدمع وحسن الذكر . نعم بالدمع وحسن الذكر فقد كان من اهل الخير . وكان مساعدا للغير , يأخذ بيد الضرير ويجبر الكسير . يحترم الكبير . ويوقر الصغير ...
شيع محمد إلى المقبرة على أكتاف والده الذي أصر بالرغم من كبر سنه على المشاركة في حمله . وصل إلى المقبرة . فقيد المجتمع بأسره , قد شيعه كل بيت واسره . بكا عليه القريب والبعيد والحديث والتليد والشيخ العتيد والطفل الوليد . بكت عليه المنابر بكت عليه المآذن بكت عليه الدور وشيعته القصور واستبشرت به الحور وفرحت به القبور ...
نزل ابا محمد الى القبر الجديد والموئل الأكيد والقريب البعيد. آخذ فلذة كبده ووضعه بيده . حل عقد كفنه ووجهه للقبلة . وضع الطين تحت رأسه وهو يردد... قوله تعالى ...
{منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة اخرى }
خرج ابا محمد من القبر . اغلق القبر . وضع بيده التراب على القبر . وكم مرة وضع التراب هكذا . ولكن هذه المرة تختلف ..
هذه المرة . كأنما فقد روحه . هذه المرة نزفت كل جروحه . هذه المرة تساقطت صروحه ....
استقبل العزاء . وآمن على الدعاء . نسي البكاء . احسن بالله الرجاء ...
ولكن قلبه من الداخل يستعر . واحاسيسه تحتضر وآهاته تنهمر .
توجه الى المنزل المهجور . ليس من اهله . بل المكسور من فراق اغلى الاحبة ....
هناك رأى خزانة ملابسه . رأى فراشه . رأى لحافه . رأى صورته .رأى بسمته . رأى وثيقة التخرج .رأى عمامة العيد .
فتح الدرج . فرأى مصحفه . وبقايا تحفه . وتحفة ملحفة .كشف عنها . وجد بها دبلة خطوبة كان اعدها من الآن ليهديها الى ابنة عمه في الصيف عندما يحين موعد الزواج . هنا سقطت الدمعة تلو الدمعة . وانطفئت الشمعة تلو الشمعة ...
ضم فراشه وشم لحافه وقبل صورته وتوشح عمامته . احرق الوثيقة بدموعه . وغادر الغرفة على عجل . حتى لا تعمى المقل ... وهو يقول ...
دموعي لن تكفيك . وعيوني لن تبكيك . ولساني لن يحكيك . ويدي لن تسجيك . لا لشيء . الا لأنه لن يوفيك . ولو قطرة من قطرات برك ....
ثم ترنم بأبيات قالها هو بنفسه فهو لم يكن من قبل شاعرا ولكن هول المصاب خلط المشاعر وصيره شاعر ...يكتب آلامه ويحاول بناء احلامه .... فقال ,,,,
بالدمع اكتب احزاني وآهاتي ***** وتشتكي من ضلام البعد ابياتي
بني يامن بكت من هول موتته **** كل البرايا وماضيهم ومن ياتي
بني يا بسمة كانت تلازمني **** وترسم البشر في اعماق نسماتي
أجاك الموت في الاجداث اودعك**** ام ذاك حلم ووجه الصبح قد تاتي
على فراشك انهي كل ازمنتي **** وارجو الموت في احضان عبراتي
وامك اليوم في الشباك تنتظر **** لقياك يامن قتلت كل بسماتي
هذا وداعي وارجو الله رحماه **** هذي دموعي تناجي فيك ابياتي
اصارع الحزن والالام تقتلني ****واكتب الموت في اسوأ حكاياتي
الى الجنان بني انت ساكنها***** واسأل الله ان يعطي رجاءتي
 |