التميز خلال 24 ساعة
 العضو الأكثر نشاطاً هذا اليوم   الموضوع النشط هذا اليوم   المشرف المميزلهذا اليوم 
قريبا
فقه الحج للشيخ/عبدالرزاق البدر
بقلم : الرهيب
الرهيب
« آخـــر الـــمـــشـــاركــــات »
         :: *💫 #علمتني_آية 💫* (آخر رد :الرهيب)       :: ❖ فضفضة حافظ ..💜☁️ (آخر رد :الرهيب)       :: اثر كثرة الصلاة على نبينا محمد صل الله عليه وسلم (آخر رد :الرهيب)       :: ضبط الانوثة (آخر رد :الرهيب)       :: فقه الحج للشيخ/عبدالرزاق البدر (آخر رد :الرهيب)       :: 📚 رحيق القراءه (آخر رد :الرهيب)       :: كن مع الله يكن معك (آخر رد :الرهيب)       :: فضل التفرُّغ للعبادة يوم الجمعة. (آخر رد :الرهيب)       :: قصة أصحاب السبت (آخر رد :الرهيب)       :: ✍ خواطر جميله (آخر رد :الرهيب)       :: 🌾🌷راقت لي🌷🌾 (آخر رد :الرهيب)       :: تهنئة ..ترقية الملازم أول مهندس" حسام عون شنيف القرني" إلى رتبة نقيب مهندس (آخر رد :الرهيب)      



العلوم الشرعية قسم يهتم بكافة العلوم الشرعية فقط

الإهداءات

إضافة رد

 
LinkBack أدوات الموضوع

قديم 08-06-2011, 11:02 PM   #65
 
الصورة الرمزية ح ـلــم
افتراضي رد: وقفــ ـ ـ ـ ــات إيمانيه مع آيـات الذكر الحكيم .. شاركونـــا ( متجدد )

تفسير
سورة عبس

مكية كلها بإجماعهم وهي اثنتانِ وأربعون ءاية
أخرج الترمذي والحاكم وابن حبان عن عائشة قالت: نزلت في ابن أم مكتوم الأعمى.



بسم الله الرحمن الرحيم
عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16) قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا المَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32) فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ المَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الكَفَرَةُ الفَجَرَةُ (42)


﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) عبس أي قطب ما بين عينيه، قاله الزبيدي. وتولى: أي أعرض بوجهه الكريم صلى الله عليه وسلم، قاله البخاري.



﴿أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى ﴾(2) قَرأ أبيُّ بن كعب والحسن وأبو عمران: ءان جاءه بهمزة واحدة مفتوحة وممدودة، وقرأ ابن مسعود: "أَأَن" بهمزتين مقصورتين مفتوحتين. قال القسطلاني في شرح البخاري وغيرُه: لأجل أن جاءه الأعمى عبد الله ابن أم مكتوم وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم صناديد قريش يدعوهم إلى الإسلام فقال: يا رسول الله علمني مما علمك الله، وكرر ذلك ولم يعلم أنه أي رسول الله مشغول بذلك، أي بدعوتهم إلى الإسلام وقد قويَ طمَعُه في إسلامهم، وكان في إسلامهم إسلام من وراءهم من قومهم، قاله القرطبي. فَكَرِهَ رسولُ الله قطعَه لكلامه فعبس عليه السلام وأعرض عنه فعوتب في ذلك صلى الله عليه وسلم ، والذين كان رسول الله يناجيهم في أمر الإسلام هم: عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبو جهل عمرو بن هشام، وأُبيُّ وأمية ابنا خلف على خلافٍ في بعضهم. وجاء لفظ الأعمى إشعارًا بعذره في الإقدام على قطع كلام رسول الله للقوم وللدلالة على ما يناسب من الرفق به والصَّغْوِ لما يقصده رضي الله عنه. قال الثوري: فكان النبي بعد ذلك إذا رأى ابنَ أم مكتوم يبسط له رداءه ويقول: "مرحبًا بمن عاتبني فيه ربي" ويقول له:"هل من حاجة" ، واستخلفه مرتين على صلاة الناس في المدينة المنورة في غزوتين من غزواته صلى الله عليه وسلم ، وكان يؤذّن له عليه السلام مع بلال وغيره رضي الله عنهم.

﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ﴾(3) أي ما الذي يجعلك داريًا بحاله لعله يتطهر من الآثام بما يتلقف منك، قال البيضاوي: وفيه إيماء بأن إعراضه صلى الله عليه وسلم عن ابن أم مكتوم رضي الله عنه كان لتزكية غيره.



﴿أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى ﴾(4) أي أو يتعظ بما يتعلمه ويسمعه من موعظتك فينتفع بذلك، وقرأ عاصم: "فَتَنفَعَهُ" بفتح العين، والباقون برفعها، قال الزجاج: من نصب فعلى جواب:"لعل"، ومن رفع فعلى العطف على:"يزكى".




﴿أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى ﴾(5) قال بعض: المراد من كان ذا ثروة وغنى، قال الرازي في تفسيره:"وهو فاسد هاهنا لأن إقبال النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن لثروتهم ومالهم حتى يقال له أما من أثرى فأنت تقبل عليه"، ثم قال: المعنى من استغنى عن الإيمان والقرءان بما له من المال، وروي عن عطاء قريبٌ منه، والمراد الذين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يناجيهم في شأن الإسلام ثم قتلوا والعياذ بالله على الكفر، قُتِل عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو جهل عمرو بن هشام وأمية بن خلف يوم بدر، أما أبيُّ بن خلف فقد رماه رسول الله صلى الله عليه وسلم بحَرْبة يوم أحد فقتله.





﴿فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى﴾ (6) أي تتعرض له بالإقبال عليه بوجهك. وقرأ عاصم وأبو عمرو وابن عامر والكسائي: "تَصَّدَّى" بفتح التاء والصاد وتخفيفها، وقرأ نافع وابن كثير: "تَصَّدَّى" بفتح التاء والصاد وتشديدها، وقرأ أبيُّ بن كعب وأبو الجوزاء: "تتصدى" بتاءين مع تخفيف الصاد، وقرأ ابن مسعود والجَحدري: "تُصْدَى" بتاء واحدة مضمومة وتخفيف الصاد.





﴿وَمَا عَلَيْكَ أَلا يَزَّكَّى ﴾(7) أي الكافر وهذا تحقير لشأن الكفار، والمعنى: ليس عليك بأس في أن لا يتزكى بالإسلام من تدعوه إليه، إذ الهدى بيد الله وليس عليك إلا البلاغ؛ وبعد ذلك نزل الأمر بالقتال.


﴿وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى ﴾(8) أي يأتيك مسرعًا طالبًا للخير والعلم لله عزَّ وجلَّ والمراد به ابن أم مكتوم رضي الله عنه.



﴿وَهُوَ يَخْشَى ﴾(9) أي يخاف الله عزَّ وجلَّ.



﴿فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى(10) أي تتشاغل، وقرأ ابن مسعود وأبو الجوزاء وطلحة بن مصرف: تتلهى بتاءين، وقرأ أُبيُّ بن كعب والجَحدري وابن السميفع: "تُلْهَى" بتاء واحدة خفيفة مرفوعة.

﴿كَلا﴾(11) أي لا تفعل بعدها مثلها، على أن ما فعله رسول الله لم يكن معصية كبيرة ولا صغيرة، ومن قال هو صغيرة أخطأ.



﴿إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ ﴾(11) أي أن ءايات القرءان موعظة وتبصرة للخلق.



﴿فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ ﴾(12) أي فمن شاء حفظ القرءان واتعظ به.


﴿فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ ﴾(13) أي أن تلك التذكرة مثبتة في هذه الصحف المكرمة، والصُّحُف: جمع صحيفة، قال الرازي والنسفي: إنها صحفٌ مُنْتَسَخَةٌ من اللوح المحفوظ مكرمةٌ عند الله، وقيل: إن المراد بالصحف الكتب المنزلة على الأنبياء كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)﴾[سورةالأعلى] ، وقيل: المراد اللوح المحفوظ.


﴿مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ ﴾(14) أي مرفوعة القدر محفوظة من الدنس لا يمسها إلا المطهرون وهم الملائكة.



﴿بِأَيْدِي سَفَرَةٍ ﴾(15) أي هذه الصحف المكرمة المرفوعة المطهرة بأيدي الكتبة من الملائكة، قاله ابن عباس وغيره.




﴿كِرَامٍ بَرَرَةٍ ﴾(16) أي هم كرام أعزاء على ربهم بررة مطيعون له عزَّ وجلَّ.



﴿قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ ﴾(17) أخرج ابن المنذر عن عكرمة في قوله تعالى ﴿قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ(17)﴾ قال: نزلت في عتبة بن أبي لهب حين قال: كفرت برب النجم، ومعنى الآية لُعِنَ الكافرُ ما أشدَّ كفره، وظاهر قوله تعالى ﴿قُتِلَ(17)﴾ الدعاء، والمراد به الذم البليغ لأن الله لا يُتصور منه الدعاء. وقوله تعالى: ﴿مَا أَكْفَرَهُ﴾ ظاهره التعجب وهو لا يكون من الله فالمعنى المراد هو تعجيب كل سامع لأن مبالغة الكفار في الكفران يتعجب منها كل واقف عليها، والمعنى أن هذا الكافر يستحق أن يقال عنه: لُعِنَ ما أشد كفره؛ واللعن معناه: الطرد والإبعاد من الخير على سبيل السخط، والعَجَبُ والتعجب حالة تعرضُ للإنسان عند الجهل بسبب الشىء، ولهذا قال بعض الحكماء: العجب ما لا يعرف سببه ولهذا قيل: لا يصح على الله التعجب إذ هو علاّم الغيوب لا تخفى عليه خافية، قاله الراغب الأصبهاني وغيرُه.


﴿مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾ (18) أي لِمَ يتكبرُ هذا الكافر؟ ألم يرَ من أي شىء خُلِق؟! وهو استفهام على معنى التقرير على حقارة ما خلق منه.


﴿مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ﴾(19) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"إن أحدَكُمْ يُجمَعُ خلقُهُ في بطنِ أمهِ أربعينَ يومًا نطفةً، ثم يكونُ عَلَقَةً مثلَ ذلك، ثم يكونُ مُضْغَةً مثلَ ذلك، ثم يُرْسِلُ الله إليه الملَكَ فينفُخُ فيه الروحَ، ويؤمرُ بأربع كلماتٍ بِكَتْبِ رِزْقِهِ وَعَملِهِ وأَجَلِهِ وشقيٌّ أو سعيدٌ" ، هذا طرف حديث رواه البخاري ومسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه. والنطفة: المني المخلوق منه البشر، والعلقة: المني ينتقل بعد طوره فيصير دمًا غليظًا متجمدًا، ثم ينتقل طورًا ءاخر فيصير لحمًا وهو المضغة سُميت بذلك لأنها مقدار ما يمضغ، قاله الفيومي. والمقصود أن التكبر والتجبر لا يليقان بمن كان أصله نطفة ثم علقة ثم مضغة. ومعنى فقدَّره: أي فقدَّرَهُ أطوارًا إلى أن أتَمَّ خِلقتَه، قدَّر يديه ورجليه وعينيه وسائرَ أعضائه، وَحَسنًا أو دَميمًا، وقَصيرًا أو طويلًا، وشقيًّا أو سعيدًا .



﴿ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ﴾(20) المعنى أن الله سهَّل له الخروج من بطن أمه بأن جعل فُوَّهَةً للرحم، وألهمه إذا قَرُب وقتُ خروجه أن يتنكس فيصير رأسه من جهة الأسفل بعد أن كان من جهة الأعلى. فسبحان الله الخالق البارئ المصوّر، وقيل: سَهَّل له العلم بطريق الحق والباطل، قاله الحسن ومجاهد.


﴿ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ﴾(21) أي جعل له قبرًا يُوارَى فيه ولم يجعله مما يُلقى على وجه الأرض فتأكله الطير والسباع.


﴿ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ ﴾(22) أي أحياه بعد موته للبعث، ووقت النشور علمه عند الله سبحانه.


﴿كَلا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ ﴾(23) كلمة "كلا" هي ردع وزجر للكافر عما هو عليه فالكافر لم يفعل ما أمره الله به من الطاعة والإيمان.


﴿فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ ﴾(24) أي فلينظر كيف خلق الله له طعامه ولينظر إلى مدخله ومخرجه، والمراد نظر اعتبار وهو نظر القلب متدبرًا متفكرًا في عظيم قدرة الله سبحانه.


﴿أَنَّا صَبَبْنَا المَاءَ صَبًّا ﴾(25) أي الغيث والمطر ينسكب من السحاب، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر: "إنا" بالكسر، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي: "أنا صببنا" بفتح الهمزة في الوصل وفي الابتداء، قال الزجاج: من كسر "إنا" فعلى الابتداء والاستئناف، ومن فتح فعلى البدل من الطعام.



﴿ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا ﴾(26) أي بالنبات فإنه يشق الأرض بخروجه منها.


﴿فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا ﴾(27) "فيها" أي في الأرض ينبت الله جميع الحبوب التي يُتغذى بها كالحنطة والشعير.


﴿وَعِنَبًا وَقَضْبًا ﴾(28) العنب معروف، قال ابن عباس: القضب: هو الرُّطَب لأنه يُقضب من النخل أي يقطع.


﴿وَزَيْتُونًا وَنَخْلاً ﴾(29) الزيتون والنخل معروفان.


﴿وَحَدَائِقَ غُلْبًا ﴾(30) أي بساتين كثيرة الأشجار، والحديقة: البستان يكون عليه حائط، والغُلب: الغِلاظ الأعناق، وقال الزجاج: هي المتكاثفة العِظامُ، والمراد عِظَمُ أشجارها وكثرتها.


(وَفَاكِهَةً وَأَبًّا(31) أي ألوان الفاكهة، والأبُّ: هو ما ترعاه البهائم، قاله ابن عباس، وقيل: إنه الثمار الرطبة.



﴿مَتَاعًا لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ﴾ (32) أي أن ما ذكر من الحبّ وما بعده خلق لمنفعة الإنسان وكذلك الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم تنتفع به.


﴿فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ ﴾(33) وهي النفخة الثانية صيحة يوم القيامة، قال الخليل بن أحمد: الصاخة صيحة تَصُخُّ الآذان صَخًّا، أي تُصِمُّها بشدة وقعتها، قال السمين: صَخَّ يَصُخُّ صَخًا: أي صاح صياحًا مقطعًا يقطع قلب سامعيه. وجواب ﴿فَإِذَا(33)﴾ محذوف تقديره: اشتغل كل إنسان بنفسه، يدل عليه ﴿لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37)﴾ قاله أبو حيان وغيره.



﴿يَوْمَ يَفِرُّ المَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ﴾(34) أي لا يلتفتُ الإنسان إلى أحد من أقاربه لعِظَمِ ما هو فيه


﴿وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ ﴾(35) أي لا يلتفتُ الإنسان إلى أحد من أقاربه لعِظَمِ ما هو فيه


﴿وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ ﴾(36) أي لا يلتفتُ الإنسان إلى أحد من أقاربه لعِظَمِ ما هو فيه، والمراد بالصاحبة الزوجة.


﴿لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ﴾(37) أي أن لكل واحد حالا يشغله عن النظر في حال غيره، وقرأ أبو عبد الرحمن السُّلَمي والزهري وأبو العالية وابن السُّمَيفع وابن مُحَيصن: "يَعنيه" بفتح الياء والعين غير معجمة.


﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ﴾(38) أي أن وجوه الصالحين تكون يوم القيامة مشرقة مضيئة قد علمت ما لها من الخير والنعيم.


﴿ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ ﴾(39) أي مسرورة فرحة بما نالها من كرامة الله عزَّ وجلَّ.


﴿وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ ﴾(40) أي غبارٌ وكمدٌ في وجوههم من شدة الحزن وهي وجوه الكفار كما سيأتي.


﴿تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ ﴾(41) أي تغشاها ظلمة.


﴿أُولَئِكَ هُمُ الكَفَرَةُ الفَجَرَةُ﴾ (42) والكَفَرَةُ: جمع كافر، والفَجَرَةُ: جمع فاجر.

وعن أُبيّ بن كعب رضي الله عنه في قوله عزَّ وجلَّ: ﴿وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14)﴾ [سورة الحاقة] قال: يصيران غَبَرَة على وجوه الكفار لا على وجوه المؤمنين وذلك قوله عزَّ وجلَّ: ﴿وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41)﴾ [سورة عبس] رواه الحاكم وصححه، ووافقه الذهبي.
</i></b></i>



ح ـلــم غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 09-13-2011, 09:06 AM   #66
 
الصورة الرمزية ح ـلــم
افتراضي رد: وقفــ ـ ـ ـ ــات إيمانيه مع آيـات الذكر الحكيم .. شاركونـــا ( متجدد )

( آية 1-11 )
62- تفسيرسورة الجمعة عدد آياتها 11 ( آية 1-11 )
وهي مدنية
{ 1 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ }
أي: يسبح لله، وينقاد لأمره، ويتألهه، ويعبده، جميع ما في السماوات والأرض، لأنه الكامل الملك، الذي له ملك العالم العلوي والسفلي، فالجميع مماليكه، وتحت تدبيره، { الْقُدُّوسُ } المعظم، المنزه عن كل آفة ونقص، { الْعَزِيزُ } القاهر للأشياء كلها، { الْحَكِيمُ } في خلقه وأمره.
فهذه الأوصاف العظيمة مما تدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له.
{ 2-4 } { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ }

المراد بالأميين: الذين لا كتاب عندهم، ولا أثر رسالة من العرب وغيرهم، ممن ليسوا من أهل الكتاب، فامتن الله تعالى عليهم، منة عظيمة، أعظم من منته على غيرهم، لأنهم عادمون للعلم والخير، وكانوا في ضلال مبين، يتعبدون للأشجار والأصنام والأحجار، ويتخلقون بأخلاق السباع الضارية، يأكل قويهم ضعيفهم، وقد كانوا في غاية الجهل بعلوم الأنبياء، فبعث الله فيهم رسولاً منهم، يعرفون نسبه، وأوصافه الجميلة وصدقه، وأنزل عليه كتابه { يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ } القاطعة الموجبة للإيمان واليقين، { وَيُزَكِّيهِمْ } بأن يحثهم على الأخلاق الفاضلة، ويفصلها لهم، ويزجرهم عن الأخلاق الرذيلة، { وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } أي: علم القرآن وعلم السنة، المشتمل ذلك علوم الأولين والآخرين، فكانوا بعد هذا التعليم والتزكية منه أعلم الخلق، بل كانوا أئمة أهل العلم والدين، وأكمل الخلق أخلاقًا، وأحسنهم هديًا وسمتًا، اهتدوا بأنفسهم، وهدوا غيرهم، فصاروا أئمة المهتدين، وهداة المؤمنين، فلله عليهم ببعثه هذا الرسول صلى الله عليه وسلم، أكمل نعمة، وأجل منحة، وقوله { وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ } أي: وامتن على آخرين من غيرهم أي: من غير الأميين، ممن يأتي بعدهم، ومن أهل الكتاب، لما يلحقوا بهم، أي: فيمن باشر دعوة الرسول، ويحتمل أنهم لما يلحقوا بهم في الفضل، ويحتمل أن يكونوا لما يلحقوا بهم في الزمان، وعلى كل، فكلا المعنيين صحيح، فإن الذين بعث الله فيهم رسوله وشاهدوه وباشروا دعوته، حصل لهم من الخصائص والفضائل ما لا يمكن أحدًا أن يلحقهم فيها، وهذا من عزته وحكمته، حيث لم يترك عباده هملاً ولا سدى، بل ابتعث فيهم الرسل، وأمرهم ونهاهم، وذلك من فضل الله العظيم، الذي يؤتيه من يشاء من عباده، وهو أفضل من نعمته عليهم بعافية البدن وسعة الرزق، وغير ذلك، من النعم الدنيوية، فلا أعظم من نعمة الدين التي هي مادة الفوز، والسعادة الأبدية.
{ 5-8 } { مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }

لما ذكر تعالى منته على هذه الأمة، الذين ابتعث فيهم النبي الأمي، وما خصهم الله به من المزايا والمناقب، التي لا يلحقهم فيها أحد وهم الأمة الأمية الذين فاقوا الأولين والآخرين، حتى أهل الكتاب، الذين يزعمون أنهم العلماء الربانيون والأحبار المتقدمون، ذكر أن الذين حملهم الله التوراة من اليهود وكذا النصارى، وأمرهم أن يتعلموها، ويعملوا بما فيها ، وانهم لم يحملوها ولم يقوموا بما حملوا به، أنهم لا فضيلة لهم، وأن مثلهم كمثل الحمار الذي يحمل فوق ظهره أسفارًا من كتب العلم، فهل يستفيد ذلك الحمار من تلك الكتب التي فوق ظهره؟ وهل يلحق به فضيلة بسبب ذلك؟ أم حظه منها حملها فقط؟ فهذا مثل علماء اليهود الذين لم يعملوا بما في التوراة، الذي من أجله وأعظمه الأمر باتباع محمد صلى الله عليه وسلم، والبشارة به، والإيمان بما جاء به من القرآن، فهل استفاد من هذا وصفه من التوراة إلا الخيبة والخسران وإقامة الحجة عليه؟ فهذا المثل مطابق لأحوالهم.
بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله الدالة على صدق رسولنا وصدق ما جاء به.
{ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } أي: لا يرشدهم إلى مصالحهم، ما دام الظلم لهم وصفًا، والعناد لهم نعتًا ومن ظلم اليهود وعنادهم، أنهم يعلمون أنهم على باطل، ويزعمون أنهم على حق، وأنهم أولياء الله من دون الناس.
ولهذا أمر الله رسوله، أن يقول لهم: إن كنتم صادقين في زعمكم أنكم على الحق، وأولياء الله: { فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ } وهذا أمر خفيف، فإنهم لو علموا أنهم على حق لما توقفوا عن هذا التحدي الذي جعله الله دليلاً على صدقهم إن تمنوه، وكذبهم إن لم يتمنوه ولما لم يقع منهم مع الإعلان لهم بذلك، علم أنهم عالمون ببطلان ما هم عليه وفساده، ولهذا قال: { وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } أي من الذنوب والمعاصي، التي يستوحشون من الموت من أجلها، { وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ } فلا يمكن أن يخفى عليه من ظلمهم شيء، هذا وإن كانوا لا يتمنون الموت بما قدمت أيديهم، و يفرون منه [غاية الفرار]، فإن ذلك لا ينجيهم، بل لا بد أن يلاقيهم الموت الذي قد حتمه الله على العباد وكتبه عليهم.
ثم بعد الموت واستكمال الآجال، يرد الخلق كلهم يوم القيامة إلى عالم الغيب والشهادة، فينبئهم بما كانوا يعملون، من خير وشر، قليل وكثير.
{ 9-11 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ }
يأمر تعالى عباده المؤمنين بالحضور لصلاة الجمعة والمبادرة إليها، من حين ينادى لها والسعي إليها، والمراد بالسعي هنا: المبادرة إليها والاهتمام لها، وجعلها أهم الأشغال، لا العدو الذي قد نهي عنه عند المضي إلى الصلاة، وقوله: { وَذَرُوا الْبَيْعَ } أي: اتركوا البيع، إذا نودي للصلاة، وامضوا إليها.
فإن { ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ } من اشتغالكم بالبيع، وتفويتكم الصلاة الفريضة، التي هي من آكد الفروض.
{ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } أن ما عند الله خير وأبقى، وأن من آثر الدنيا على الدين، فقد خسر الخسارة الحقيقية، من حيث ظن أنه يربح، وهذا الأمر بترك البيع مؤقت مدة الصلاة.
{ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ } لطلب المكاسب والتجارات ولما كان الاشتغال في التجارة، مظنة الغفلة عن ذكر الله، أمر الله بالإكثار من ذكره، فقال: { وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا } أي في حال قيامكم وقعودكم وعلى جنوبكم، { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } فإن الإكثار من ذكر الله أكبر أسباب الفلاح.
{ وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا } أي: خرجوا من المسجد، حرصًا على ذلك اللهو، و [تلك] التجارة، وتركوا الخير، { وَتَرَكُوكَ قَائِمًا } تخطب الناس، وذلك [في] يوم جمعة، بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب الناس، إذ قدم المدينة، عير تحمل تجارة، فلما سمع الناس بها، وهم في المسجد، انفضوا من المسجد، وتركوا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب استعجالًا لما لا ينبغي أن يستعجل له، وترك أدب، { قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ } من الأجر والثواب، لمن لازم الخير وصبر نفسه على عبادة الله.
{ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ } التي، وإن حصل منها بعض المقاصد، فإن ذلك قليل منغص، مفوت لخير الآخرة، وليس الصبر على طاعة الله مفوتًا للرزق، فإن الله خير الرازقين، فمن اتقى الله رزقه من حيث لا يحتسب.
وفي هذه الآيات فوائد عديدة:
منها: أن الجمعة فريضة على جميع المؤمنين، يجب عليهم السعي لها، والمبادرة والاهتمام بشأنها.
ومنها: أن الخطبتين يوم الجمعة، فريضتان يجب حضورهما، لأنه فسر الذكر هنا بالخطبتين، فأمر الله بالمضي إليه والسعي له.
ومنها: مشروعية النداء ليوم الجمعة، والأمر به.
ومنها: النهى عن البيع والشراء، بعد نداء الجمعة، وتحريم ذلك، وما ذاك إلا لأنه يفوت الواجب ويشغل عنه، فدل ذلك على أن كل أمر ولو كان مباحًا في الأصل، إذا كان ينشأ عنه تفويت واجب، فإنه لا يجوز في تلك الحال.
ومنها: الأمر بحضور الخطبتين يوم الجمعة، وذم من لم يحضرهما، ومن لازم ذلك الإنصات لهما.
ومنها: أنه ينبغي للعبد المقبل على عبادة الله، وقت دواعي النفس لحضور اللهو [والتجارات] والشهوات، أن يذكرها بما عند الله من الخيرات، وما لمؤثر رضاه على هواه.
تم تفسير سورة الجمعة، ولله الحمد والثناء



ح ـلــم غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 09-13-2011, 09:16 AM   #67
 
الصورة الرمزية ح ـلــم
افتراضي رد: وقفــ ـ ـ ـ ــات إيمانيه مع آيـات الذكر الحكيم .. شاركونـــا ( متجدد )

تفسير سورة المنافقون- كاملة - مدنية - باقى جزء 28

تفسير سورة المنافقون من 1- 11



مدنية



بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ( 1 ) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 2 ) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ ( 3 ) وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ( 4 ) .


لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وكثر المسلمون في المدينة واعتز الإسلام بها ، صار أناس من أهلها من الأوس والخزرج، يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر، ليبقى جاههم، وتحقن دماؤهم، وتسلم أموالهم، فذكر الله من أوصافهم ما به يعرفون، لكي يحذر العباد منهم، ويكونوا منهم على بصيرة، فقال: ( إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا ) على وجه الكذب: ( نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ ) وهذه الشهادة من المنافقين على وجه الكذب والنفاق، مع أنه لا حاجة لشهادتهم في تأييد رسوله، فإن ( اللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ) في قولهم ودعواهم، وأن ذلك ليس بحقيقة منهم.
( اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً ) أي: ترسًا يتترسون بها من نسبتهم إلى النفاق.
فصدوا عن سبيله بأنفسهم، وصدوا غيرهم ممن يخفى عليه حالهم، ( إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) حيث أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر، وأقسموا على ذلك وأوهموا صدقهم.
( ذَلِكَ ) الذي زين لهم النفاق ( بـ ) سبب ( أَنَّهُمْ ) لا يثبتون على الإيمان.
بل ( آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ ) بحيث لا يدخلها الخير أبدًا، ( فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ ) ما ينفعهم، ولا يعون ما يعود بمصالحهم.
( وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ ) من روائها ونضارتها، ( وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ) أي: من حسن منطقهم تستلذ لاستماعه، فأجسامهم وأقوالهم معجبة، ولكن ليس وراء ذلك من الأخلاق الفاضلة والهدى الصالح شيء، ولهذا قال: ( كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ ) لا منفعة فيها، ولا ينال منها إلا الضرر المحض، ( يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ) وذلك لجبنهم وفزعهم وضعف قلوبهم، والريب الذي في قلوبهم يخافون أن يطلع عليهم.
فهؤلاء ( هُمُ الْعَدُوُّ ) على الحقيقة، لأن العدو البارز المتميز، أهون من العدو الذي لا يشعر به، وهو مخادع ماكر، يزعم أنه ولي، وهو العدو المبين، ( فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ) أي: كيف يصرفون عن الدين الإسلامي بعد ما تبينت أدلته، واتضحت معالمه، إلى الكفر الذي لا يفيدهم إلا الخسار والشقاء.


وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ ( 5 ) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ( 6 ) .


( وَإِذَا قِيلَ ) لهؤلاء المنافقين ( تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ ) عما صدر منكم، لتحسن أحوالكم، وتقبل أعمالكم، امتنعوا من ذلك أشد الامتناع، و ( لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ ) امتناعًا من طلب الدعاء من الرسول، ( وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ ) عن الحق بغضًا له ( وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ ) عن اتباعه بغيًا وعنادًا، فهذه حالهم عندما يدعون إلى طلب الدعاء من الرسول، وهذا من لطف الله وكرامته لرسوله، حيث لم يأتوا إليه، فيستغفر لهم، فإنه سواء استغفر لهم أم لم يستغفر لهم فلن يغفر الله لهم، وذلك لأنهم قوم فاسقون، خارجون عن طاعة الله، مؤثرون للكفر على الإيمان، فلذلك لا ينفع فيهم استغفار الرسول، لو استغفر لهم كما قال تعالى: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ( إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) .


هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ ( 7 ) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ ( 8 ) .


وهذا من شدة عداوتهم للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، لما رأوا اجتماع أصحابه وائتلافهم، ومسارعتهم في مرضاة الرسول صلى الله عليه وسلم، قالوا بزعمهم الفاسد:
( لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا ) فإنهم - بزعمهم - لولا أموال المنافقين ونفقاتهم عليهم، لما اجتمعوا في نصرة دين الله، وهذا من أعجب العجب، أن يدعى هؤلاء المنافقون الذين هم أحرص الناس على خذلان الدين، وأذية المسلمين، مثل هذه الدعوى، التي لا تروج إلا على من لا علم له بحقائق الأمور ولهذا قال الله ردًا لقولهم: ( وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) فيؤتي الرزق من يشاء، ويمنعه من يشاء، وييسر الأسباب لمن يشاء، ويعسرها على من يشاء، ( وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ ) فلذلك قالوا تلك المقالة، التي مضمونها أن خزائن الرزق في أيديهم، وتحت مشيئتهم.
( يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنْهَا الأذَلَّ ) وذلك في غزوة المريسيع، حين صار بين بعض المهاجرين والأنصار، بعض كلام كدر الخواطر، ظهر حينئذ نفاق المنافقين، وأظهروا ما في نفوسهم .
وقال كبيرهم، عبد الله بن أبي بن سلول: ما مثلنا ومثل هؤلاء - يعني المهاجرين- إلا كما قال القائل: « غذ كلبك يأكلك »
وقال: لئن رجعنا إلى المدينة ( لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنْهَا الأذَلَّ ) بزعمه أنه هو وإخوانه من المنافقين الأعزون، وأن رسول الله ومن معه هم الأذلون، والأمر بعكس ما قال هذا المنافق، فلهذا قال [ تعالى: ] ( وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ) فهم الأعزاء، والمنافقون وإخوانهم من الكفار [ هم ] الأذلاء. ( وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ ) [ ذلك ] فلذلك زعموا أنهم الأعزاء، اغترارًا بما هم عليه من الباطل، ثم قال تعالى:


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ( 9 ) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ ( 10 ) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ( 11 ) .


يأمر تعالى عباده المؤمنين بالإكثار من ذكره، فإن في ذلك الربح والفلاح، والخيرات الكثيرة، وينهاهم أن تشغلهم أموالهم وأولادهم عن ذكره، فإن محبة المال والأولاد مجبولة عليها أكثر النفوس، فتقدمها على محبة الله، وفي ذلك الخسارة العظيمة، ولهذا قال تعالى: ( وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ) أي: يلهه ماله وولده، عن ذكر الله ( فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ) للسعادة الأبدية، والنعيم المقيم، لأنهم آثروا ما يفنى على ما يبقى، قال تعالى: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ .
وقوله: ( وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ ) يدخل في هذا، النفقات الواجبة، من الزكاة والكفارات ونفقة الزوجات، والمماليك، ونحو ذلك، والنفقات المستحبة، كبذل المال في جميع المصالح، وقال: ( مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ ) ليدل ذلك على أنه تعالى، لم يكلف العباد من النفقة، ما يعنتهم ويشق عليهم، بل أمرهم بإخراج جزء مما رزقهم الله الذي يسره لهم ويسر لهم أسبابه.
فليشكروا الذي أعطاهم، بمواساة إخوانهم المحتاجين، وليبادروا بذلك، الموت الذي إذا جاء، لم يمكن العبد أن يأتي بمثقال ذرة من الخير، ولهذا قال: ( مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ ) متحسرًا على ما فرط في وقت الإمكان، سائلا الرجعة التي هي محال: ( رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ ) أي: لأتدارك ما فرطت فيه، ( فَأَصَّدَّقَ ) من مالي، ما به أنجو من العذاب، وأستحق به جزيل الثواب، ( وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ ) بأداء المأمورات كلها، واجتناب المنهيات، ويدخل في هذا، الحج وغيره، وهذا السؤال والتمني، قد فات وقته، ولا يمكن تداركه، ولهذا قال: ( وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا ) المحتوم لها ( وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) من خير وشر، فيجازيكم على ما علمه منكم، من النيات والأعمال.
تم تفسير سورة المنافقين،
ولله الحمد



ح ـلــم غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 09-13-2011, 09:27 AM   #68
 
الصورة الرمزية ح ـلــم
افتراضي رد: وقفــ ـ ـ ـ ــات إيمانيه مع آيـات الذكر الحكيم .. شاركونـــا ( متجدد )

- تفسير سورة النور عدد آياتها 64 ( آية 1-33 )
وهي مدنية

{ 1 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }
أي: هذه { سُورَةٌ ْ} عظيمة القدر { أَنْزَلْنَاهَا ْ} رحمة منا بالعباد، وحفظناها من كل شيطان { وَفَرَضْنَاهَا ْ} أي: قدرنا فيها ما قدرنا، من الحدود والشهادات وغيرها، { وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ْ} أي: أحكاما جليلة، وأوامر وزواجر، وحكما عظيمة { لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ْ} حين نبين لكم، ونعلمكم ما لم تكونوا تعلمون. ثم شرع في بيان تلك الأحكام المشار إليها، فقال:

{ 2 - 3 } { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ }


هذا الحكم في الزاني والزانية البكرين، أنهما يجلد كل منهما مائة جلدة، وأما الثيب، فقد دلت السنة الصحيحة المشهورة، أن حده الرجم، ونهانا تعالى أن تأخذنا رأفة [بهما] في دين الله، تمنعنا من إقامة الحد عليهم، سواء رأفة طبيعية، أو لأجل قرابة أو صداقة أو غير ذلك، وأن الإيمان موجب لانتفاء هذه الرأفة المانعة من إقامة أمر الله، فرحمته حقيقة، بإقامة حد الله عليه، فنحن وإن رحمناه لجريان القدر عليه، فلا نرحمه من هذا الجانب، وأمر تعالى أن يحضر عذاب الزانيين طائفة، أي: جماعة من المؤمنين، ليشتهر ويحصل بذلك الخزي والارتداع، وليشاهدوا الحد فعلا، فإن مشاهدة أحكام الشرع بالفعل، مما يقوى بها العلم، ويستقر به الفهم، ويكون أقرب لإصابة الصواب، فلا يزاد فيه ولا ينقص، والله أعلم.

هذا بيان لرذيلة الزنا، وأنه يدنس عرض صاحبه، وعرض من قارنه ومازجه، ما لا يفعله بقية الذنوب، فأخبر أن الزاني لا يقدم على نكاحه من النساء، إلا أنثى زانية، تناسب حاله حالها، أو مشركة بالله، لا تؤمن ببعث ولا جزاء، ولا تلتزم أمر الله، والزانية كذلك، لا ينكحها إلا زان أو مشرك { وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ْ} أي: حرم عليهم أن ينكحوا زانيا، أو ينكحوا زانية.
ومعنى الآية: أن من اتصف بالزنا، من رجل أو امرأة، ولم يتب من ذلك، أن المقدم على نكاحه، مع تحريم الله لذلك، لا يخلو إما أن لا يكون ملتزما لحكم الله ورسوله، فذاك لا يكون إلا مشركا، وإما أن يكون ملتزما لحكم الله ورسوله، فأقدم على نكاحه مع علمه بزناه، فإن هذا النكاح زنا، والناكح زان مسافح، فلو كان مؤمنا بالله حقا، لم يقدم على ذلك، وهذا دليل صريح على تحريم نكاح الزانية حتى تتوب، وكذلك إنكاح الزاني حتى يتوب، فإن مقارنة الزوج لزوجته، والزوجة لزوجها، أشد الاقترانات والازدواجات، وقد قال تعالى: { احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ ْ} أي: قرناءهم، فحرم الله ذلك، لما فيه من الشر العظيم، وفيه من قلة الغيرة، وإلحاق الأولاد، الذين ليسوا من الزوج، وكون الزاني لا يعفها بسبب اشتغاله بغيرها، مما بعضه كاف للتحريم وفي هذا دليل أن الزاني ليس مؤمنا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن " فهو وإن لم يكن مشركا، فلا يطلق عليه اسم المدح، الذي هو الإيمان المطلق.

{ 4 - 5 } { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }


لما عظم تعالى أمر الزاني بوجوب جلده، وكذا رجمه إن كان محصنا، وأنه لا تجوز مقارنته، ولا مخالطته على وجه لا يسلم فيه العبد من الشر، بين تعالى تعظيم الإقدام على الأعراض بالرمي بالزنا فقال: { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ْ} أي: النساء الأحرار العفائف، وكذاك الرجال، لا فرق بين الأمرين، والمراد بالرمي الرمي بالزنا، بدليل السياق، { ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا ْ} على ما رموا به { بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ ْ} أي: رجال عدول، يشهدون بذلك صريحا، { فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً ْ} بسوط متوسط، يؤلم فيه، ولا يبالغ بذلك حتى يتلفه، لأن القصد التأديب لا الإتلاف، وفي هذا تقدير حد القذف، ولكن بشرط أن يكون المقذوف كما قال تعالى محصنا مؤمنا، وأما قذف غير المحصن، فإنه يوجب التعزير.
{ وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا ْ} أي: لهم عقوبة أخرى، وهو أن شهادة القاذف غير مقبولة، ولو حد على القذف، حتى يتوب كما يأتي، { وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ْ} أي: الخارجون عن طاعة الله، الذين قد كثر شرهم، وذلك لانتهاك ما حرم الله، وانتهاك عرض أخيه، وتسليط الناس على الكلام بما تكلم به، وإزالة الأخوة التي عقدها الله بين أهل الإيمان، ومحبة أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، وهذا دليل على أن القذف من كبائر الذنوب.
وقوله: { إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ْ} فالتوبة في هذا الموضع، أن يكذب القاذف نفسه، ويقر أنه كاذب فيما قال، وهو واجب عليه، أن يكذب نفسه ولو تيقن وقوعه، حيث لم يأت بأربعة شهداء، فإذا تاب القاذف وأصلح عمله وبدل إساءته إحسانا، زال عنه الفسق، وكذلك تقبل شهادته على الصحيح، فإن الله غفور رحيم يغفر الذنوب جميعا، لمن تاب وأناب، وإنما يجلد القاذف، إذا لم يأت بأربعة شهداء إذا لم يكن زوجا، فإن كان زوجا، فقد ذكر بقوله:

{ 6 - 10 } { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ * وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ * وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ }


وإنما كانت شهادات الزوج على زوجته، دارئة عنه الحد، لأن الغالب، أن الزوج لا يقدم على رمي زوجته، التي يدنسه ما يدنسها إلا إذا كان صادقا، ولأن له في ذلك حقا، وخوفا من إلحاق أولاد ليسوا منه به، ولغير ذلك من الحكم المفقودة في غيره فقال: { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ ْ} أي: الحرائر لا المملوكات.
{ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ ْ} على رميهم بذلك { شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ ْ} بأن لم يقيموا شهداء، على ما رموهم به { فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ْ} سماها شهادة، لأنها نائبة مناب الشهود، بأن يقول: " أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميتها به ".
{ وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ْ} أي: يزيد في الخامسة مع الشهادة المذكورة، مؤكدا تلك الشهادات، بأن يدعو على نفسه، باللعنة إن كان كاذبا، فإذا تم لعانه، سقط عنه حد القذف، ظاهر الآيات، ولو سمى الرجل الذي رماها به، فإنه يسقط حقه تبعا لها. وهل يقام عليها الحد، بمجرد لعان الرجل ونكولها أم تحبس؟ فيه قولان للعلماء، الذي يدل عليه الدليل، أنه يقام عليها الحد، بدليل قوله: { وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ ْ} إلى آخره، فلولا أن العذاب وهو الحد قد وجب بلعانه، لم يكن لعانها دارئا له.
ويدرأ عنها، أي: يدفع عنها العذاب، إذ قابلت شهادات الزوج، بشهادات من جنسها.
{ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ ْ} وتزيد في الخامسة، مؤكدة لذلك، أن تدعو على نفسها بالغضب، فإذا تم اللعان بينهما، فرق بينهما إلى الأبد، وانتفى الولد الملاعن عليه، وظاهر الآيات يدل على اشتراط هذه الألفاظ عند اللعان، منه ومنها، واشتراط الترتيب فيها، وأن لا ينقص منها شيء، ولا يبدل شيء بشيء، وأن اللعان مختص بالزوج إذا رمى امرأته، لا بالعكس، وأن الشبه في الولد مع اللعان لا عبرة به، كما لا يعتبر مع الفراش، وإنما يعتبر الشبه حيث لا مرجح إلا هو.
{ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ ْ} وجواب الشرط محذوف، يدل عليه سياق الكلام أي: لأحل بأحد المتلاعنين الكاذب منهما، ما دعا به على نفسه، ومن رحمته وفضله، ثبوت هذا الحكم الخاص بالزوجين، لشدة الحاجة إليه، وأن بين لكم شدة الزنا وفظاعته، وفظاعة القذف به، وأن شرع التوبة من هذه الكبائر وغيرها.
{ 11 - 26 } { إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُم } إلى آخر الآيات
وهو قوله: { لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } لما ذكر فيما تقدم، تعظيم الرمي بالزنا عموما، صار ذلك كأنه مقدمة لهذه القصة، التي وقعت على أشرف النساء، أم المؤمنين رضي الله عنها، وهذه الآيات، نزلت في قصة الإفك المشهورة، الثابتة في الصحاح والسنن والمسانيد.
وحاصلها أن النبي صلى الله عليه وسلم، في بعض غزواته، ومعه زوجته عائشة الصديقة بنت الصديق، فانقطع عقدها فانحبست في طلبه ورحلوا جملها وهودجها، فلم يفقدوها، ثم استقل الجيش راحلا، وجاءت مكانهم، وعلمت أنهم إذا فقدوها، رجعوا إليها فاستمروا في مسيرهم، وكان صفوان بن المعطل السلمي، من أفاضل الصحابة رضي الله عنه، قد عرس في أخريات القوم ونام، فرأى عائشة رضي الله عنها فعرفها، فأناخ راحلته، فركبتها من دون أن يكلمها أو تكلمه، ثم جاء يقود بها بعد ما نزل الجيش في الظهيرة، فلما رأى بعض المنافقين الذين في صحبة النبي صلى الله عليه وسلم، في ذلك السفر مجيء صفوان بها في هذه الحال، أشاع ما أشاع، ووشى الحديث، وتلقفته الألسن، حتى اغتر بذلك بعض المؤمنين، وصاروا يتناقلون هذا الكلام، وانحبس الوحي مدة طويلة عن الرسول صلى الله عليه وسلم. وبلغ الخبر عائشة بعد ذلك بمدة، فحزنت حزنا شديدا، فأنزل الله تعالى براءتها في هذه الآيات، ووعظ الله المؤمنين، وأعظم ذلك، ووصاهم بالوصايا النافعة. فقوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ } أي: الكذب الشنيع، وهو رمي أم المؤمنين { عُصْبَةٌ مِنْكُمْ } أي: جماعة منتسبون إليكم يا معشر المؤمنين، منهم المؤمن الصادق [في إيمانه ولكنه اغتر بترويج المنافقين] ومنهم المنافق.
{ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ } لما تضمن ذلك تبرئة أم المؤمنين ونزاهتها، والتنويه بذكرها، حتى تناول عموم المدح سائر زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، ولما تضمن من بيان الآيات المضطر إليها العباد، التي ما زال العمل بها إلى يوم القيامة، فكل هذا خير عظيم، لولا مقالة أهل الإفك لم يحصل ذلك، وإذا أراد الله أمرا جعل له سببا، ولذلك جعل الخطاب عاما مع المؤمنين كلهم، وأخبر أن قدح بعضهم ببعض كقدح في أنفسهم، ففيه أن المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، واجتماعهم على مصالحهم، كالجسد الواحد، والمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا، فكما أنه يكره أن يقدح أحد في عرضه، فليكره من كل أحد، أن يقدح في أخيه المؤمن، الذي بمنزلة نفسه، وما لم يصل العبد إلى هذه الحالة، فإنه من نقص إيمانه وعدم نصحه.
{ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ } وهذا وعيد للذين جاءوا بالإفك، وأنهم سيعاقبون على ما قالوا من ذلك، وقد حد النبي صلى الله عليه وسلم منهم جماعة، { وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ } أي: معظم الإفك، وهو المنافق الخبيث، عبد الله بن أبي بن سلول -لعنه الله- { لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ } ألا وهو الخلود في الدرك الأسفل من النار.
ثم أرشد الله عباده عند سماع مثل هذا الكلام فقال: { لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا } أي: ظن المؤمنون بعضهم ببعض خيرا، وهو السلامة مما رموا به، وأن ما معهم من الإيمان المعلوم، يدفع ما قيل فيهم من الإفك الباطل، { وَقَالُوا } بسبب ذلك الظن { سُبْحَانَكَ } أي: تنزيها لك من كل سوء، وعن أن تبتلي أصفياءك بالأمور الشنيعة، { هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ } أي: كذب وبهت، من أعظم الأشياء، وأبينها. فهذا من الظن الواجب، حين سماع المؤمن عن أخيه المؤمن، مثل هذا الكلام، أن يبرئه بلسانه، ويكذب القائل لذلك.
{ لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ } أي: هلا جاء الرامون على ما رموا به، بأربعة شهداء أي: عدول مرضيين. { فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ } وإن كانوا في أنفسهم قد تيقنوا ذلك، فإنهم كاذبون في حكم الله، لأن الله حرم عليهم التكلم بذلك، من دون أربعة شهود، ولهذا قال: { فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ } ولم يقل " فأولئك هم الكاذبون " وهذا كله، من تعظيم حرمة عرض المسلم، بحيث لا يجوز الإقدام على رميه، من دون نصاب الشهادة بالصدق.
{ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ } بحيث شملكم إحسانه فيهما، في أمر دينكم ودنياكم، { لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَفَضْتُمْ } أي: خضتم { فِيهِ } من شأن الإفك { عَذَابٌ عَظِيمٌ } لاستحقاقكم ذلك بما قلتم، ولكن من فضل الله عليكم ورحمته، أن شرع لكم التوبة، وجعل العقوبة مطهرة للذنوب.
{ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ } أي: تلقفونه، ويلقيه بعضكم إلى بعض، وتستوشون حديثه، وهو قول باطل. { وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ } والأمران محظوران، التكلم بالباطل، والقول بلا علم، { وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا } فلذلك أقدم عليه من أقدم من المؤمنين الذين تابوا منه، وتطهروا بعد ذلك، { وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ } وهذا فيه الزجر البليغ، عن تعاطي بعض الذنوب على وجه التهاون بها، فإن العبد لا يفيده حسبانه شيئا، ولا يخفف من عقوبة الذنب، بل يضاعف الذنب، ويسهل عليه مواقعته مرة أخرى.
{ ولَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ } أي: وهلا إذ سمعتم -أيها المؤمنون- كلام أهل الإفك { قُلْتُمْ } منكرين لذلك، معظمين لأمره: { مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا } أي: ما ينبغي لنا، وما يليق بنا الكلام، بهذا الإفك المبين، لأن المؤمن يمنعه إيمانه من ارتكاب القبائح { هَذَا بُهْتَانٌ } أي: كذب عظيم. { يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ } أي: لنظيره، من رمي المؤمنين بالفجور، فالله يعظكم وينصحكم عن ذلك، ونعم المواعظ والنصائح من ربنا فيجب علينا مقابلتها بالقبول والإذعان، والتسليم والشكر له، على ما بين لنا { إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ } { إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } دل ذلك على أن الإيمان الصادق، يمنع صاحبه من الإقدام على المحرمات. { وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ } المشتملة على بيان الأحكام، والوعظ، والزجر، والترغيب، والترهيب، يوضحها لكم توضيحا جليا. { وَاللَّهُ عَلِيمٌ } أي: كامل العلم عام الحكمة، فمن علمه وحكمته، أن علمكم من علمه، وإن كان ذلك راجعا لمصالحكم في كل وقت.
{ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ } أي: الأمور الشنيعة المستقبحة المستعظمة، فيحبون أن تشتهر الفاحشة { فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي: موجع للقلب والبدن، وذلك لغشه لإخوانه المسلمين، ومحبة الشر لهم، وجراءته على أعراضهم، فإذا كان هذا الوعيد، لمجرد محبة أن تشيع الفاحشة، واستحلاء ذلك بالقلب، فكيف بما هو أعظم من ذلك، من إظهاره، ونقله؟" وسواء كانت الفاحشة، صادرة أو غير صادرة.
وكل هذا من رحمة الله بعباده المؤمنين، وصيانة أعراضهم، كما صان دماءهم وأموالهم، وأمرهم بما يقتضي المصافاة، وأن يحب أحدهم لأخيه ما يحب لنفسه، ويكره له ما يكره لنفسه. { وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } فلذلك علمكم، وبين لكم ما تجهلونه.
{ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ } قد أحاط بكم من كل جانب { وَرَحْمَتُهُ } عليكم { وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } لما بين لكم هذه الأحكام والمواعظ، والحكم الجليلة، ولما أمهل من خالف أمره، ولكن فضله ورحمته، وأن ذلك وصفه اللازم آثر لكم من الخير الدنيوي والأخروي، ما لن تحصوه، أو تعدوه.
ولما نهى عن هذا الذنب بخصوصه، نهى عن الذنوب عموما فقال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ } أي: طرقه ووساوسه.
وخطوات الشيطان، يدخل فيها سائر المعاصي المتعلقة بالقلب، واللسان والبدن. ومن حكمته تعالى، أن بين الحكم، وهو: النهي عن اتباع خطوات الشيطان. والحكمة وهو بيان ما في المنهي عنه، من الشر المقتضي، والداعي لتركه فقال: { وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ } أي: الشيطان { يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ } أي: ما تستفحشه العقول والشرائع، من الذنوب العظيمة، مع ميل بعض النفوس إليه. { وَالْمُنْكَرِ } وهو ما تنكره العقول ولا تعرفه. فالمعاصي التي هي خطوات الشيطان، لا تخرج عن ذلك، فنهي الله عنها للعباد، نعمة منه عليهم أن يشكروه ويذكروه، لأن ذلك صيانة لهم عن التدنس بالرذائل والقبائح، فمن إحسانه عليهم، أن نهاهم عنها، كما نهاهم عن أكل السموم القاتلة ونحوها، { وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا } أي: ما تطهر من اتباع خطوات الشيطان، لأن الشيطان يسعى، هو وجنده، في الدعوة إليها وتحسينها، والنفس ميالة إلى السوء أمارة به، والنقص مستول على العبد من جميع جهاته، والإيمان غير قوي، فلو خلي وهذه الدواعي، ما زكى أحد بالتطهر من الذنوب والسيئات والنماء بفعل الحسنات، فإن الزكاء يتضمن الطهارة والنماء، ولكن فضله ورحمته أوجبا أن يتزكى منكم من تزكى.
وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: " اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها " ولهذا قال: { وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ } من يعلم منه أن يزكى بالتزكية، ولهذا قال: { وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }
{ وَلَا يَأْتَلِ } أي: لا يحلف { أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا } كان من جملة الخائضين في الإفك " مسطح بن أثاثة " وهو قريب لأبي بكر الصديق رضي الله عنه، وكان مسطح فقيرا من المهاجرين في سبيل الله، فحلف أبو بكر أن لا ينفق عليه، لقوله الذي قال.
فنزلت هذه الآية، ينهاهم عن هذا الحلف المتضمن لقطع النفقة عنه، ويحثه على العفو والصفح، ويعده بمغفرة الله إن غفر له، فقال: { أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } إذا عاملتم عبيده، بالعفو والصفح، عاملكم بذلك، فقال أبو بكر - لما سمع هذه الآية-: بلى، والله إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع النفقة إلى مسطح، وفي هذه الآية دليل على النفقة على القريب، وأنه لا تترك النفقة والإحسان بمعصية الإنسان، والحث على العفو والصفح، ولو جرى عليه ما جرى من أهل الجرائم.
ثم ذكر الوعيد الشديد على رمي المحصنات فقال: { إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ } أي: العفائف عن الفجور { الْغَافِلَاتِ } التي لم يخطر ذلك بقلوبهن { الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ } واللعنة لا تكون إلا على ذنب كبير.
وأكد اللعنة بأنها متواصلة عليهم في الدارين { وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } وهذا زيادة على اللعنة، أبعدهم عن رحمته، وأحل بهم شدة نقمته.
وذلك العذاب يوم القيامة { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } فكل جارحة تشهد عليهم بما عملته، ينطقها الذي أنطق كل شيء، فلا يمكنه الإنكار، ولقد عدل في العباد، من جعل شهودهم من أنفسهم، { يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ } أي: جزاءهم على أعمالهم، الجزاء الحق، الذي بالعدل والقسط، يجدون جزاءها موفرا، لم يفقدوا منها شيئا، { وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } ويعلمون في ذلك الموقف العظيم، أن الله هو الحق المبين، فيعلمون انحصار الحق المبين في الله تعالى.
فأوصافه العظيمة حق، وأفعاله هي الحق، وعبادته هي الحق، ولقاؤه حق، ووعده ووعيده، وحكمه الديني والجزائي حق، ورسله حق، فلا ثم حق، إلا في الله وما من الله.
{ الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ } أي: كل خبيث من الرجال والنساء، والكلمات والأفعال، مناسب للخبيث، وموافق له، ومقترن به، ومشاكل له، وكل طيب من الرجال والنساء، والكلمات والأفعال، مناسب للطيب، وموافق له، ومقترن به، ومشاكل له، فهذه كلمة عامة وحصر، لا يخرج منه شيء، من أعظم مفرداته، أن الأنبياء -خصوصا أولي العزم منهم، خصوصا سيدهم محمد صلى الله عليه وسلم، الذي هو أفضل الطيبين من الخلق على الإطلاق لا يناسبهم إلا كل طيب من النساء، فالقدح في عائشة رضي الله عنها بهذا الأمر قدح في النبي صلى الله عليه وسلم، وهو المقصود بهذا الإفك، من قصد المنافقين، فمجرد كونها زوجة للرسول صلى الله عليه وسلم، يعلم أنها لا تكون إلا طيبة طاهرة من هذا الأمر القبيح.
فكيف وهي هي؟" صديقة النساء وأفضلهن وأعلمهن وأطيبهن، حبيبة رسول رب العالمين، التي لم ينزل الوحي عليه وهو في لحاف زوجة من زوجاته غيرها، ثم صرح بذلك، بحيث لا يبقى لمبطل مقالا، ولا لشك وشبهة مجالا، فقال: { أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ } والإشارة إلى عائشة رضي الله عنها أصلا، وللمؤمنات المحصنات الغافلات تبعا { لَهُمْ مَغْفِرَةٌ } تستغرق الذنوب { وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } في الجنة صادر من الرب الكريم.
{ 27 - 29 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ }
يرشد الباري عباده المؤمنين، أن لا يدخلوا بيوتا غير بيوتهم بغير استئذان، فإن في ذلك عدة مفاسد: منها ما ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث قال " إنما جعل الاستئذان من أجل البصر " فبسبب الإخلال به، يقع البصر على العورات التي داخل البيوت، فإن البيت للإنسان في ستر عورة ما وراءه، بمنزلة الثوب في ستر عورة جسده.
ومنها: أن ذلك يوجب الريبة من الداخل، ويتهم بالشر سرقة أو غيرها، لأن الدخول خفية، يدل على الشر، ومنع الله المؤمنين من دخول غير بيوتهم حَتَّى يَسْتَأْنِسُوا أي: يستأذنوا. سمي الاستئذان استئناسا، لأن به يحصل الاستئناس، وبعدمه تحصل الوحشة، { وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا } وصفة ذلك، ما جاء في الحديث: " السلام عليكم، أأدخل "؟
{ ذَلِكُمْ } أي: الاستئذان المذكور { خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } لاشتماله على عدة مصالح، وهو من مكارم الأخلاق الواجبة، فإن أذن، دخل المستأذن.
{ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا } أي: فلا تمتنعوا من الرجوع، ولا تغضبوا منه، فإن صاحب المنزل، لم يمنعكم حقا واجبا لكم، وإنما هو متبرع، فإن شاء أذن أو منع، فأنتم لا يأخذ أحدكم الكبر والاشمئزاز من هذه الحال، { هُوَ أَزْكَى لَكُمْ } أي: أشد لتطهيركم من السيئات، وتنميتكم بالحسنات. { وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } فيجازي كل عامل بعمله، من كثرة وقلة، وحسن وعدمه، هذا الحكم في البيوت المسكونة، سواء كان فيها متاع للإنسان أم لا، وفي البيوت غير المسكونة، التي لا متاع فيها للإنسان، وأما البيوت التي ليس فيها أهلها، وفيها متاع الإنسان المحتاج للدخول إليه، وليس فيها أحد يتمكن من استئذانه، وذلك كبيوت الكراء وغيرها، فقد ذكرها بقوله:
{ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ } أي: حرج وإثم، دل على أن الدخول من غير استئذان في البيوت السابقة، أنه محرم، وفيه حرج { أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ } وهذا من احترازات القرآن العجيبة، فإن قوله: { لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ } لفظ عام في كل بيت ليس ملكا للإنسان، أخرج منه تعالى البيوت التي ليست ملكه، وفيها متاعه، وليس فيها ساكن، فأسقط الحرج في الدخول إليها، { وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ } أحوالكم الظاهرة والخفية، وعلم مصالحكم، فلذلك شرع لكم ما تحتاجون إليه وتضطرون، من الأحكام الشرعية.
{ 30 } { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ }
أي: أرشد المؤمنين، وقل لهم: الذين معهم إيمان، يمنعهم من وقوع ما يخل بالإيمان: { يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ } عن النظر إلى العورات وإلى النساء الأجنبيات، وإلى المردان، الذين يخاف بالنظر إليهم الفتنة، وإلى زينة الدنيا التي تفتن، وتوقع في المحذور.
{ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ } عن الوطء الحرام، في قبل أو دبر، أو ما دون ذلك، وعن التمكين من مسها، والنظر إليها. { ذَلِكَ } الحفظ للأبصار والفروج { أَزْكَى لَهُمْ } أطهر وأطيب، وأنمى لأعمالهم، فإن من حفظ فرجه وبصره، طهر من الخبث الذي يتدنس به أهل الفواحش، وزكت أعماله، بسبب ترك المحرم، الذي تطمع إليه النفس وتدعو إليه، فمن ترك شيئا لله، عوضه الله خيرا منه، ومن غض بصره عن المحرم، أنار الله بصيرته، ولأن العبد إذا حفظ فرجه وبصره عن الحرام ومقدماته، مع داعي الشهوة، كان حفظه لغيره أبلغ، ولهذا سماه الله حفظا، فالشيء المحفوظ إن لم يجتهد حافظه في مراقبته وحفظه، وعمل الأسباب الموجبة لحفظه، لم ينحفظ، كذلك البصر والفرج، إن لم يجتهد العبد في حفظهما، أوقعاه في بلايا ومحن، وتأمل كيف أمر بحفظ الفرج مطلقا، لأنه لا يباح في حالة من الأحوال، وأما البصر فقال: { يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ } أتى بأداة " من " الدالة على التبعيض، فإنه يجوز النظر في بعض الأحوال لحاجة، كنظر الشاهد والعامل والخاطب، ونحو ذلك. ثم ذكرهم بعلمه بأعمالهم، ليجتهدوا في حفظ أنفسهم من المحرمات.
{ 31 } { وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }

لما أمر المؤمنين بغض الأبصار وحفظ الفروج، أمر المؤمنات بذلك، فقال: { وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ } عن النظر إلى العورات والرجال، بشهوة ونحو ذلك من النظر الممنوع، { وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ } من التمكين من جماعها، أو مسها، أو النظر المحرم إليها. { وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ } كالثياب الجميلة والحلي، وجميع البدن كله من الزينة، ولما كانت الثياب الظاهرة، لا بد لها منها، قال: { إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا } أي: الثياب الظاهرة، التي جرت العادة بلبسها إذا لم يكن في ذلك ما يدعو إلى الفتنة بها، { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ } وهذا لكمال الاستتار، ويدل ذلك على أن الزينة التي يحرم إبداؤها، يدخل فيها جميع البدن، كما ذكرنا. ثم كرر النهي عن إبداء زينتهن، ليستثني منه قوله: { إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ } أي: أزواجهن { أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ } يشمل الأب بنفسه، والجد وإن علا، { أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن } ويدخل فيه الأبناء وأبناء البعولة مهما نزلوا { أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ } أشقاء، أو لأب، أو لأم. { أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ } أي: يجوز للنساء أن ينظر بعضهن إلى بعض مطلقا، ويحتمل أن الإضافة تقتضي الجنسية، أي: النساء المسلمات، اللاتي من جنسكم، ففيه دليل لمن قال: إن المسلمة لا يجوز أن تنظر إليها الذمية.
{ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ } فيجوز للمملوك إذا كان كله للأنثى، أن ينظر لسيدته، ما دامت مالكة له كله، فإن زال الملك أو بعضه، لم يجز النظر. { أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ } أي: أو الذين يتبعونكم، ويتعلقون بكم، من الرجال الذين لا إربة لهم في هذه الشهوة، كالمعتوه الذي لا يدري ما هنالك، وكالعنين الذي لم يبق له شهوة، لا في فرجه، ولا في قلبه، فإن هذا لا محذور من نظره.
{ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ } أي: الأطفال الذين دون التمييز، فإنه يجوز نظرهم للنساء الأجانب، وعلل تعالى ذلك، بأنهم لم يظهروا على عورات النساء، أي: ليس لهم علم بذلك، ولا وجدت فيهم الشهوة بعد ودل هذا، أن المميز تستتر منه المرأة، لأنه يظهر على عورات النساء.
{ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ } أي: لا يضربن الأرض بأرجلهن، ليصوت ما عليهن من حلي، كخلاخل وغيرها، فتعلم زينتها بسببه، فيكون وسيلة إلى الفتنة.
ويؤخذ من هذا ونحوه، قاعدة سد الوسائل، وأن الأمر إذا كان مباحا، ولكنه يفضي إلى محرم، أو يخاف من وقوعه، فإنه يمنع منه، فالضرب بالرجل في الأرض، الأصل أنه مباح، ولكن لما كان وسيلة لعلم الزينة، منع منه.
ولما أمر تعالى بهذه الأوامر الحسنة، ووصى بالوصايا المستحسنة، وكان لا بد من وقوع تقصير من المؤمن بذلك، أمر الله تعالى بالتوبة، فقال: { وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ } لأن المؤمن يدعوه إيمانه إلى التوبة ثم علق على ذلك الفلاح، فقال: { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } فلا سبيل إلى الفلاح إلا بالتوبة، وهي الرجوع مما يكرهه الله، ظاهرا وباطنا، إلى: ما يحبه ظاهرا وباطنا، ودل هذا، أن كل مؤمن محتاج إلى التوبة، لأن الله خاطب المؤمنين جميعا، وفيه الحث على الإخلاص بالتوبة في قوله: { وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ } أي: لا لمقصد غير وجهه، من سلامة من آفات الدنيا، أو رياء وسمعة، أو نحو ذلك من المقاصد الفاسدة.
{ 32 - 33 } { وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ }
يأمر تعالى الأولياء والأسياد، بإنكاح من تحت ولايتهم من الأيامى وهم: من لا أزواج لهم، من رجال، ونساء ثيب، وأبكار، فيجب على القريب وولي اليتيم، أن يزوج من يحتاج للزواج، ممن تجب نفقته عليه، وإذا كانوا مأمورين بإنكاح من تحت أيديهم، كان أمرهم بالنكاح بأنفسهم من باب أولى.
{ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ } يحتمل أن المراد بالصالحين، صلاح الدين، وأن الصالح من العبيد والإماء -وهو الذي لا يكون فاجرا زانيا- مأمور سيده بإنكاحه، جزاء له على صلاحه، وترغيبا له فيه، ولأن الفاسد بالزنا، منهي عن تزوجه، فيكون مؤيدا للمذكور في أول السورة، أن نكاح الزاني والزانية محرم حتى يتوب، ويكون التخصيص بالصلاح في العبيد والإماء دون الأحرار، لكثرة وجود ذلك في العبيد عادة، ويحتمل أن المراد بالصالحين الصالحون للتزوج المحتاجون إليه من العبيد والإماء، يؤيد هذا المعنى، أن السيد غير مأمور بتزويج مملوكه، قبل حاجته إلى الزواج. ولا يبعد إرادة المعنيين كليهما، والله أعلم.
وقوله: { إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ } أي: الأزواج والمتزوجين { يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } فلا يمنعكم ما تتوهمون، من أنه إذا تزوج، افتقر بسبب كثرة العائلة ونحوه، وفيه حث على التزوج، ووعد للمتزوج بالغنى بعد الفقر. { وَاللَّهُ وَاسِعٌ } كثير الخير عظيم الفضل { عَلِيمٌ } بمن يستحق فضله الديني والدنيوي أو أحدهما، ممن لا يستحق، فيعطي كلا ما علمه واقتضاه حكمه.
{ وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } هذا حكم العاجز عن النكاح، أمره الله أن يستعفف، أن يكف عن المحرم، ويفعل الأسباب التي تكفه عنه، من صرف دواعي قلبه بالأفكار التي تخطر بإيقاعه فيه، ويفعل أيضا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء " وقوله: { الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا } أي: لا يقدرون نكاحا، إما لفقرهم أو فقر أوليائهم وأسيادهم، أو امتناعهم من تزويجهم [وليس لهم] من قدرة على إجبارهم على ذلك، وهذا التقدير، أحسن من تقدير من قدر " لا يجدون مهر نكاح " وجعلوا المضاف إليه نائبا مناب المضاف، فإن في ذلك محذورين: أحدهما: الحذف في الكلام، والأصل عدم الحذف.
والثاني كون المعنى قاصرا على من له حالان، حالة غنى بماله، وحالة عدم، فيخرج العبيد والإماء ومن إنكاحه على وليه، كما ذكرنا.
{ حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } وعد للمستعفف أن الله سيغنيه وييسر له أمره، وأمر له بانتظار الفرج، لئلا يشق عليه ما هو فيه.
وقوله { وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا } أي: من ابتغى وطلب منكم الكتابة، وأن يشتري نفسه، من عبيد وإماء، فأجيبوه إلى ما طلب، وكاتبوه، { إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ } أي: في الطالبين للكتابة { خَيْرًا } أي: قدرة على التكسب، وصلاحا في دينه، لأن في الكتابة تحصيل المصلحتين، مصلحة العتق والحرية، ومصلحة العوض الذي يبذله في فداء نفسه. وربما جد واجتهد، وأدرك لسيده في مدة الكتابة من المال ما لا يحصل في رقه، فلا يكون ضرر على السيد في كتابته، مع حصول عظيم المنفعة للعبد، فلذلك أمر الله بالكتابة على هذا الوجه أمر إيجاب، كما هو الظاهر، أو أمر استحباب على القول الآخر، وأمر بمعاونتهم على كتابتهم، لكونهم محتاجين لذلك، بسبب أنهم لا مال لهم، فقال: { وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ } يدخل في ذلك أمر سيده الذي كاتبه، أن يعطيه من كتابته أو يسقط عنه منها، وأمر الناس بمعونتهم.
ولهذا جعل الله للمكاتبين قسطا من الزكاة، ورغب في إعطائه بقوله: { مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ } أي: فكما أن المال مال الله، وإنما الذي بأيديكم عطية من الله لكم ومحض منه، فأحسنوا لعباد الله، كما أحسن الله إليكم.
ومفهوم الآية الكريمة، أن العبد إذا لم يطلب الكتابة، لا يؤمر سيده أن يبتدئ بكتابته، وأنه إذا لم يعلم منه خيرا، بأن علم منه عكسه، إما أنه يعلم أنه لا كسب له، فيكون بسبب ذلك كلا على الناس، ضائعا، وإما أن يخاف إذا أعتق، وصار في حرية نفسه، أن يتمكن من الفساد، فهذا لا يؤمر بكتابته، بل ينهى عن ذلك لما فيه من المحذور المذكور.
ثم قال تعالى: { وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ } أي: إماءكم { عَلَى الْبِغَاءِ } أي: أن تكون زانية { إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا } لأنه لا يتصور إكراهها إلا بهذه الحال، وأما إذا لم ترد تحصنا فإنها تكون بغيا، يجب على سيدها منعها من ذلك، وإنما هذا نهى لما كانوا يستعملونه في الجاهلية، من كون السيد يجبر أمته على البغاء، ليأخذ منها أجرة ذلك، ولهذا قال: { لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } فلا يليق بكم أن تكون إماؤكم خيرا منكم، وأعف عن الزنا، وأنتم تفعلون بهن ذلك، لأجل عرض الحياة، متاع قليل يعرض ثم يزول.
فكسبكم النزاهة، والنظافة، والمروءة -بقطع النظر عن ثواب الآخرة وعقابها- أفضل من كسبكم العرض القليل، الذي يكسبكم الرذالة والخسة.
ثم دعا من جرى منه الإكراه إلى التوبة، فقال: { وَمَنْ يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ } فليتب إلى الله، وليقلع عما صدر منه مما يغضبه، فإذا فعل ذلك، غفر الله ذنوبه، ورحمه كما رحم نفسه بفكاكها من العذاب، وكما رحم أمته بعدم إكراهها على ما يضرها.



ح ـلــم غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 09-13-2011, 09:38 AM   #69
 
الصورة الرمزية ح ـلــم
افتراضي رد: وقفــ ـ ـ ـ ــات إيمانيه مع آيـات الذكر الحكيم .. شاركونـــا ( متجدد )

74- تفسيرسورة المدثر عدد آياتها 56 ( آية 1-56 )
وهي مكية
{ 1 - 7 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ }
تقدم أن المزمل والمدثر بمعنى واحد، وأن الله أمر رسوله صلى الله عليه وسلم، بالاجتهاد في عبادة الله القاصرة والمتعدية، فتقدم هناك الأمر له بالعبادات الفاضلة القاصرة، والصبر على أذى قومه، وأمره هنا بإعلان الدعوة ، والصدع بالإنذار، فقال: { قُمِ } [أي] بجد ونشاط { فَأَنْذِرْ } الناس بالأقوال والأفعال، التي يحصل بها المقصود، وبيان حال المنذر عنه، ليكون ذلك أدعى لتركه، { وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ } أي: عظمه بالتوحيد، واجعل قصدك في إنذارك وجه الله، وأن يعظمه العباد ويقوموا بعبادته.
{ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } يحتمل أن المراد بثيابه، أعماله كلها، وبتطهيرها تخليصها والنصح بها، وإيقاعها على أكمل الوجوه، وتنقيتها عن المبطلات والمفسدات، والمنقصات من شر ورياء، [ونفاق]، وعجب، وتكبر، وغفلة، وغير ذلك، مما يؤمر العبد باجتنابه في عباداته.
ويدخل في ذلك تطهير الثياب من النجاسة، فإن ذلك من تمام التطهير للأعمال خصوصا في الصلاة، التي قال كثير من العلماء: إن إزالة النجاسة عنها شرط من شروط الصلاة.
ويحتمل أن المراد بثيابه، الثياب المعروفة، وأنه مأمور بتطهيرها عن [جميع] النجاسات، في جميع الأوقات، خصوصا في الدخول في الصلوات، وإذا كان مأمورا بتطهير الظاهر، فإن طهارة الظاهر من تمام طهارة الباطن.
{ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ } يحتمل أن المراد بالرجز الأصنام والأوثان، التي عبدت مع الله، فأمره بتركها، والبراءة منها ومما نسب إليها من قول أو عمل. ويحتمل أن المراد بالرجز أعمال الشر كلها وأقواله، فيكون أمرا له بترك الذنوب، صغيرها وكبيرها ، ظاهرها وباطنها، فيدخل في ذلك الشرك وما دونه.
{ وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ } أي: لا تمنن على الناس بما أسديت إليهم من النعم الدينية والدنيوية، فتتكثر بتلك المنة، وترى لك [الفضل] عليهم بإحسانك المنة، بل أحسن إلى الناس مهما أمكنك، وانس [عندهم] إحسانك، ولا تطلب أجره إلا من الله تعالى واجعل من أحسنت إليه وغيره على حد سواء.
وقد قيل: إن معنى هذا، لا تعط أحدا شيئا، وأنت تريد أن يكافئك عليه بأكثر منه، فيكون هذا خاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم.
{ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ } أي: احتسب بصبرك، واقصد به وجه الله تعالى، فامتثل رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمر ربه، وبادر إليه، فأنذر الناس، وأوضح لهم بالآيات البينات جميع المطالب الإلهية، وعظم الله تعالى، ودعا الخلق إلى تعظيمه، وطهر أعماله الظاهرة والباطنة من كل سوء، وهجر كل ما يبعد عن الله من الأصنام وأهلها، والشر وأهله، وله المنة على الناس -بعد منة الله- من غير أن يطلب منهم على ذلك جزاء ولا شكورا، وصبر لله أكمل صبر، فصبر على طاعة الله، وعن معاصي الله، وعلى أقدار الله المؤلمة ، حتى فاق أولي العزم من المرسلين، صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين.

{ 8 - 10 } { فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ * فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ }
أي: فإذا نفخ في الصور للقيام من القبور، وجمع الخلق للبعث والنشور.
{ فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ } لكثرة أهواله وشدائده.
{ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ } لأنهم قد أيسوا من كل خير، وأيقنوا بالهلاك والبوار. ومفهوم ذلك أنه على المؤمنين يسير، كما قال تعالى: { يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ } .

{ 11 - 31 } { ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا * سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا * إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ * سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ * عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ * وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ }
هذه الآيات، نزلت في الوليد بن المغيرة، معاند الحق، والمبارز لله ولرسوله بالمحاربة والمشاقة، فذمه الله ذما لم يذمه غيره، وهذا جزاء كل من عاند الحق ونابذه، أن له الخزي في الدنيا، ولعذاب الآخرة أخزى، فقال: { ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا } أي: خلقته منفردا، بلا مال ولا أهل، ولا غيره، فلم أزل أنميه وأربيه ، { وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا } أي: كثيرا { و } جعلت له { بنين } أي: ذكورا { شُهُودًا } أي: دائما حاضرين عنده، [على الدوام] يتمتع بهم، ويقضي بهم حوائجه، ويستنصر بهم.
{ وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا } أي: مكنته من الدنيا وأسبابها، حتى انقادت له مطالبه، وحصل على ما يشتهي ويريد، { ثُمَّ } مع هذه النعم والإمدادات { يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ } أي: يطمع أن ينال نعيم الآخرة كما نال نعيم الدنيا.
{ كَلَّا } أي: ليس الأمر كما طمع، بل هو بخلاف مقصوده ومطلوبه، وذلك لأنه { كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا } أي: معاندا، عرفها ثم أنكرها، ودعته إلى الحق فلم ينقد لها ولم يكفه أنه أعرض وتولى عنها، بل جعل يحاربها ويسعى في إبطالها، ولهذا قال عنه:
{ إِنَّهُ فَكَّرَ } [أي:] في نفسه { وَقَدَّرَ } ما فكر فيه، ليقول قولا يبطل به القرآن.
{ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ } لأنه قدر أمرا ليس في طوره، وتسور على ما لا يناله هو و [لا] أمثاله، { ثُمَّ نَظَرَ } ما يقول، { ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ } في وجهه، وظاهره نفرة عن الحق وبغضا له، { ثُمَّ أَدْبَرَ } أي: تولى { وَاسْتَكْبَرَ } نتيجة سعيه الفكري والعملي والقولي أن قال:
{ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ } أي: ما هذا كلام الله، بل كلام البشر، وليس أيضا كلام البشر الأخيار، بل كلام الفجار منهم والأشرار، من كل كاذب سحار.
فتبا له، ما أبعده من الصواب، وأحراه بالخسارة والتباب!!
كيف يدور في الأذهان، أو يتصوره ضمير كل إنسان، أن يكون أعلى الكلام وأعظمه، كلام الرب العظيم، الماجد الكريم، يشبه كلام المخلوقين الفقراء الناقصين؟!
أم كيف يتجرأ هذا الكاذب العنيد، على وصفه كلام المبدئ المعيد .
فما حقه إلا العذاب الشديد والنكال، ولهذا قال تعالى:
{ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ } أي: لا تبقي من الشدة، ولا على المعذب شيئا إلا وبلغته.
{ لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ } أي: تلوحهم [وتصليهم] في عذابها، وتقلقهم بشدة حرها وقرها.
{ عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ } من الملائكة، خزنة لها، غلاظ شداد، لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون.
{ وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً } وذلك لشدتهم وقوتهم. { وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا } يحتمل أن المراد: إلا لعذابهم وعقابهم في الآخرة، ولزيادة نكالهم فيها، والعذاب يسمى فتنة، [كما قال تعالى: { يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ } ] ويحتمل أن المراد: أنا ما أخبرناكم بعدتهم، إلا لنعلم من يصدق ومن يكذب، ويدل على هذا ما ذكر بعده في قوله: { لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا } فإن أهل الكتاب، إذا وافق ما عندهم وطابقه، ازداد يقينهم بالحق، والمؤمنون كلما أنزل الله آية، فآمنوا بها وصدقوا، ازداد إيمانهم، { وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ } أي: ليزول عنهم الريب والشك، وهذه مقاصد جليلة، يعتني بها أولو الألباب، وهي السعي في اليقين، وزيادة الإيمان في كل وقت، وكل مسألة من مسائل الدين، ودفع الشكوك والأوهام التي تعرض في مقابلة الحق، فجعل ما أنزله الله على رسوله محصلا لهذه الفوائد الجليلة، ومميزا للكاذبين من الصادقين، ولهذا قال: { وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } أي: شك وشبهة ونفاق. { وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا } وهذا على وجه الحيرة والشك، والكفر منهم بآيات الله، وهذا وذاك من هداية الله لمن يهديه، وإضلاله لمن يضل ولهذا قال:
{ كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } فمن هداه الله، جعل ما أنزله الله على رسوله رحمة في حقه، وزيادة في إيمانه ودينه، ومن أضله، جعل ما أنزله على رسوله زيادة شقاء عليه وحيرة، وظلمة في حقه، والواجب أن يتلقى ما أخبر الله به ورسوله بالتسليم، فإنه لا يعلم جنود ربك من الملائكة وغيرهم { إلَّا هُوَ } فإذا كنتم جاهلين بجنوده، وأخبركم بها العليم الخبير، فعليكم أن تصدقوا خبره، من غير شك ولا ارتياب، { وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ } أي: وما هذه الموعظة والتذكار مقصودا به العبث واللعب، وإنما المقصود به أن يتذكر [به] البشر ما ينفعهم فيفعلونه، وما يضرهم فيتركونه.

{ 32 - 56 } { كَلَّا وَالْقَمَرِ * وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ * وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ * إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ * نَذِيرًا لِلْبَشَرِ * لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ * كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ * فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ * فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ * بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً * كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ * كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ * وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ }
{ كَلَّا } هنا بمعنى: حقا، أو بمعنى { ألا } الاستفتاحية، فأقسم تعالى بالقمر، وبالليل وقت إدباره، والنهار وقت إسفاره، لاشتمال المذكورات على آيات الله العظيمة، الدالة على كمال قدرة الله وحكمته، وسعة سطانه، وعموم رحمته، وإحاطة علمه، والمقسم عليه قوله: { إِنَّهَا } أي النار { لَإِحْدَى الْكُبَرِ } أي: لإحدى العظائم الطامة والأمور الهامة، فإذا أعلمناكم بها، وكنتم على بصيرة من أمرها، فمن شاء منكم أن يتقدم، فيعمل بما يقربه من ربه، ويدنيه من رضاه، ويزلفه من دار كرامته، أو يتأخر [عما خلق له و] عما يحبه الله [ويرضاه]، فيعمل بالمعاصي، ويتقرب إلى نار جهنم، كما قال تعالى: { وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ } الآية.
{ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ } من أعمال السوء وأفعال الشر { رَهِينَةٌ } بها موثقة بسعيها، قد ألزم عنقها، وغل في رقبتها، واستوجبت به العذاب، { إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ } فإنهم لم يرتهنوا، بل أطلقوا وفرحوا { فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ }
أي: في جنات قد حصل لهم بها جميع مطلوباتهم، وتمت لهم الراحة والطمأنينة، حتى أقبلوا يتساءلون، فأفضت بهم المحادثة، أن سألوا عن المجرمين، أي: حال وصلوا إليها، وهل وجدوا ما وعدهم الله تعالى؟ فقال بعضهم لبعض: " هل أنتم مطلعون عليهم " فاطلعوا عليهم في وسط الجحيم يعذبون، فقالوا لهم: { مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ } أي: أي شيء أدخلكم فيها؟ وبأي: ذنب استحققتموها؟ فـ { قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ } فلا إخلاص للمعبود، [ولا إحسان] ولا نفع للخلق المحتاجين.
{ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ } أي: نخوض بالباطل، ونجادل به الحق، { وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ } هذا آثار الخوض بالباطل، [وهو] التكذيب بالحق، ومن أحق الحق، يوم الدين، الذي هو محل الجزاء على الأعمال، وظهور ملك الله وحكمه العدل لسائر الخلق.
فاستمرينا على هذا المذهب الفاسد { حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ } أي: الموت، فلما ماتوا على الكفر تعذرت حينئذ عليهم الحيل، وانسد في وجوههم باب الأمل، { فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ } لأنهم لا يشفعون إلا لمن ارتضى، وهؤلاء لا يرضى الله أعمالهم . فلما بين الله مآل المخالفين، ورهب مما يفعل بهم، عطف على الموجودين بالعتاب واللوم، فقال: { فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ } أي: صادين غافلين عنها. { كَأَنَّهُمْ } في نفرتهم الشديدة منها { حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ } أي: كأنهم حمر وحش نفرت فنفر بعضها بعضا، فزاد عدوها، { فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ } أي: من صائد ورام يريدها، أو من أسد ونحوه، وهذا من أعظم ما يكون من النفور عن الحق، ومع هذا الإعراض وهذا النفور، يدعون الدعاوى الكبار.
فـ { يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً } نازلة عليه من السماء، يزعم أنه لا ينقاد للحق إلا بذلك، وقد كذبوا، فإنهم لو جاءتهم كل آية لم يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم، فإنهم جاءتهم الآيات البينات التي تبين الحق وتوضحه، فلو كان فيهم خير لآمنوا، ولهذا قال: { كَلَّا } أن نعطيهم ما طلبوا، وهم ما قصدوا بذلك إلا التعجيز، { بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ } فلو كانوا يخافونها لما جرى منهم ما جرى.
{ كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ } الضمير إما أن يعود على هذه السورة، أو على ما اشتملت عليه [من] هذه الموعظة، { فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ } لأنه قد بين له السبيل، ووضح له الدليل.
{ وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ } فإن مشيئته نافذة عامة، لا يخرج عنها حادث قليل ولا كثير، ففيها رد على القدرية، الذين لا يدخلون أفعال العباد تحت مشيئة الله، والجبرية الذين يزعمون أنه ليس للعبد مشيئة، ولا فعل حقيقة، وإنما هو مجبور على أفعاله، فأثبت تعالى للعباد مشيئة حقيقة وفعلا، وجعل ذلك تابعا لمشيئته، { هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ } أي: هو أهل أن يتقى ويعبد، لأنه الإله الذي لا تنبغي العبادة إلا له، وأهل أن يغفر لمن اتقاه واتبع رضاه. تم تفسير سورة المدثر ولله الحمد.



ح ـلــم غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 09-13-2011, 10:02 AM   #70
 
الصورة الرمزية ح ـلــم
افتراضي رد: وقفــ ـ ـ ـ ــات إيمانيه مع آيـات الذكر الحكيم .. شاركونـــا ( متجدد )

{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ }
{وَالسَّمَآءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَـهِدٍ وَمَشْهُودٍ * قُتِلَ أَصْحَـبُ الاُْخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدٌ * إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُواْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَـتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ}.

البسملة تقدم الكلام عليها.
{والسماء ذات البروج} الواو هذه حرف قسم يعني يقسم تعالى بالسماء {ذات البروج} أي صاحبة البروج، والبروج جمع برج، وهو المجموعة العظيمة من النجوم وسميت بروجاً لعلوها وارتفاعها وظهورها وبيانها، والبروج عند الفلكيين اثني عشر برجاً جمعت في قول الناظم:

حـمـلٌ فثـور فجــوزاء فسرطان فأسدٌ سنبلة ميزان
فعقـربٌ قوسٌ فجدي وكـ ذا دلو وذي آخرها الحيتان
فهي اثنا عشر برجاً، ثلاثة منها للربيع، وثلاثة للصيف، وثلاثة للخريف، وثلاثة للشتاء، فيقسم الله تعالى بالسماء ذات البروج وله تعالى أن يقسم بما شاء من خلقه، أما نحن فلا نقسم إلا بالله، بأسمائه وصفاته، ولا نقسم بشيء من المخلوقات لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت»(81) ولقوله عليه الصلاة والسلام: «من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك»(82)، قوله تعالى: {واليوم الموعود} اليوم الموعود هو يوم القيامة، وعد الله تعالى به وبينه في كتابه، ونصب عليه الأدلة العقلية التي تدل على أنه واقع حتماً، كما قال تعالى: {كما بدأنا أول خلق نعيده وعداً علينا إنَّا كنا فاعلين} [الأنبياء: 104]. {وشاهد ومشهود} ذكر علماء التفسير في الشاهد والمشهود عدة أقوال يجمعها أن الله أقسم بكل شاهد وبكل مشهود، والشهود كثيرون منهم محمد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم شهيداً علينا، كما قال الله تعالى : ) وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً)(النساء: من الآية41) ومنهم هذه الأمة شهداء على الناس ، )وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ)(البقرة: من الآية143) وأعضاء الإنسان يوم القيامة تشهد عليه بما عمل من خير وشر كما قال تعالى : )يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) ومنهم الملائكة يشهدون يوم القيامة ، فكل من شهد بحق فهو داخل في قوله {وشاهد} وأما {المشهود} فهو يوم القيامة وما يعرض فيه من الأهوال العظيمة كما قال تعالى: {ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود} [هود: 103]. فأقسم الله بكل شاهد وبكل مشهود. {قتل أصحاب الأخدود} هذه الجملة جواب القسم {قتل} يعني أهلك، وقيل: القتل هنا بمعنى اللعن، وهو الطرد والإبعاد عن رحمة الله، و{أصحاب الأخدود} هم قوم كفار أحرقوا المؤمنين بالنار، وقد وردت قصص متعددة في هؤلاء القوم منها شيء في الشام، ومنها شيء في اليمن، والمقصود أن هؤلاء الكفار حاولوا بالمؤمنين أن يرتدوا عن دينهم، ولكنهم عجزوا فحفروا أخدوداً حُفراً ممدودة في الأرض كالنهر وجمعوا الحطب الكثير وأحرقوا المؤمنين بها ـ والعياذ بالله ـ ولهذا قال: {النار ذات الوقود} يعني أن الأخدود هي أخدود النار. {ذات الوقود} أي الحطب الكثير المتأجج. {إذ هم عليها قعود} يعني أن هؤلاء الذين حفروا الأخاديد وألقوا فيها المؤمنين كانوا ـ والعياذ بالله ـ عندهم قوة وجبروت يرون النار تلتهم هؤلاء البشر وهم قعود عليها على الأسرة، فكهون كأن شيئاً لم يكن، وهذا من الجبروت أن يرى الإنسان البشر تلتهمه النار وهو جالس على سريره يتفكه بالحديث ولا يبالي. {وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود} يعني هم شهود على ما يفعلون بالمؤمنين أي حضور لا يغيب عنهم ما فعلوه بالمؤمنين، ولذلك استحقوا هذا الوعيد، بل استحقوا هذه العقوبة أن الله أهلكهم ولعنهم وطردهم وأبعدهم عن رحمته. {وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد} أي ما أنكر هؤلاء الذين سعروا النار بأجساد هؤلاء المؤمنين إلا هذا، أي: إلا أنهم آمنوا بالله عز وجل {إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد} وهذا من باب توكيد الذم بما يشبه المدح ، لأن الإيمان بالله ليس محل إنكار وهذا الإنكار أحق أن ينكر؛ لأن المؤمن بالله العزيز الحميد يجب أن يساعد ويعان، وأن تسهل له الطرق، أما أن يمنع ويردع حتى يصل الحد إلى أن يحرق بالنار فلا شك أن هذا عدوان كبير، وليس هذا بمنكر عليهم، بل هم يحمدون على ذلك؛ لأنهم عبدوا من هو أهل للعبادة، وهو الله جل وعلا، الذي خلق الخلق ليقوموا بعبادته، فمن قام بهذه العبادة فقد عرف الحكمة من الخلق وأعطاها حقها. وقوله: {إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد} العزيز هو الغالب الذي لا يغلبه شيء، فهو سبحانه وتعالى له الغلبة والعزة على كل أحدوالقهر ، ولما قال المنافقون: {لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل} قال الله تبارك وتعالى: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون} [المنافقون: 8]. وقوله: {الحميد} بمعنى المحمود فالله سبحانه وتعالى محمود على كل حال وكان من هدي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه إذا جاءه ما يُسر به قال: «الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات»، وإذا جاءه خلاف ذلك قال: «الحمد لله على كل حال»(83)، وهذا هو الذي ينبغي للإنسان أن يقول عند المكروه «الحمد لله على كل حال» أما ما يقوله بعض الناس (الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه) فهذا خلاف ما جاءت به السنة به، قل كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: «الحمد لله على كل حال» أما أن تقول: (الذي لا يحمد على مكروه سواه) فكأنك الان تعلن أنك كاره ما قدر الله عليك، وهذا لا ينبغي، بل الواجب أن يصبر الإنسان على ما قدر الله عليه مما يسوؤه أو يُسره، لأن الذي قدره الله عز وجل هو ربك وأنت عبده، هو مالكك وأنت مملوك له، فإذا كان الله هو الذي قدر عليك ما تكره فلا تجزع، يجب عليك الصبر وألا تتسخط لا بقلبك ولا بلسانك ولا بجوارحك، اصبر وتحمل والأمر سيزول ودوام الحال من المحال، قال النبي عليه الصلاة والسلام: «واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً»(84)، فالله عز وجل محمود على كل حال من السراء أو الضراء؛ لأنه إن قدر السراء فهو ابتلاء وامتحان، قال الله تعالى: {ونبلوكم بالشر والخير فتنة} [الأنبياء: 35]. ولما رأى سليمان عرش بلقيس بين يديه قال: {هذا من فضل ربي ليبلوني ءأشكر} [النمل: 40]. فإذا أصبت بالنعمة لا تأخذها على أنها نعمة فتمرح وتفرح، هي نعمة لا شك لكن اعلم أنك ممتحن بها هل تؤدي شكرها أو لا تؤدي، إن أصابتك ضراء فاصبر فإن ذلك أيضاً ابتلاء وامتحان من الله عز وجل ليبلوك هل تصبر أو لا تصبر، وإذا صبرت واحتسبت الأجر من الله فإن الله يقول: {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب}



ح ـلــم غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 09-13-2011, 10:04 AM   #71
 
الصورة الرمزية ح ـلــم
افتراضي رد: وقفــ ـ ـ ـ ــات إيمانيه مع آيـات الذكر الحكيم .. شاركونـــا ( متجدد )

ويجوز أن يكون معنى قوله: {الحميد} أنه هو الحامد، فإنه سبحانه وتعالى يحمد من يستحق الحمد، يثني على عباده من المرسلين والأنبياء والصالحين، والثناء عليهم حمدٌ لهم، فهو جل وعلا حامد، وهو كذلك محمود، وقد ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أن الله يرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها ويشرب الشربة فيحمده عليها(85)، لأنه لولا أن الله يسر لك هذه الأكلة والشربة ما حصلت عليها، قال الله تبارك وتعالى: {أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون} [الواقعة: 63-64]. الله يسألنا، أنتم تزرعونه أم نحن الزارعون؟ الجواب: بل أنت يا ربنا {لو نشاء لجعلناه حطاماً} بعد أن يخرج وتتعلق به النفوس يجعله الله حطاماً، ولم يأت التعبير «لو نشاء لم ننبته» لأن كونه ينبت وتتعلق به النفس ثم يكون حطاماً أشد وقعاً على النفس من كونه لا ينبت أصلاً {لو نشاء لجعلناه حطاماً فظلتم تفكهون إنا لمغرمون بل نحن محرومون} {الواقعة : 65- 67} ثم ذكر الشرب فقال: {أفرأيتم الماء الذي تشربون. أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون} {الواقعة 68- 69} الجواب: بل أنت يا ربنا {لو نشاء جعلناه أجاجاً} أي مالحاً غير عذب لا يستطيع الإنسان أن يشربه {فلولا تشكرون} يعني فهلا تشكرون الله على ذلك، وهنا لم يأت التعبير «لو نشاء لم ننزله من المزن»، لأن كونه ينزل ولكن لا يشرب لا يطاق أشد من كونه لم ينزل أصلاً فتأملوا القرآن الكريم تجدون فيه من الأسرار والحكم الشيء الكثير.
{الذي له ملك السماوات والأرض} أي الذي بملك السماوات والأرض، وهذه الملكية شاملة لملك الأعيان والتدبير وما فيها ، فهو يملك السماوات ومن فيها، والأراضين ومن فيها، وما بينهما، وما فيها كل شيء ملك لله ولا يشاركه أحد في ملكه، )لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (المائدة:120)
وما يضاف إلينا من الملك فيقال: مثلاً هذا البيت ملك لفلان، هذه السيارة ملك لفلان فهو ملك قاصر وليس ملكاً حقيقياً؛ لأنه لو أن إنسان أراد أن يهدم بيته بدون سبب فلا يملك ذلك، لأن النبي صلى الله عليه وسلّم نهى عن إضاعة المال(86)، لو أراد إنسان أن يحرق سيارته بدون سبب فلا يملك هذا. ولو أنه فعل لحجر القاضي عليه بمنعه من التصرف في ماله، مع أن الله منعه قبل، إذن ملكنا قاصر، والملك التام لله، {والله على كل شيء شهيد} أي: مطلع عز وجل على كل شيء، ومن جملته ما يفعله هؤلاء الكفار بالمؤمنين من الإحراق بالنار، وسوف يجازيهم، ولكن مع ذلك ومع فعلهم هذه الفعلة الشنيعة قال: {إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق} قال بعض السلف: انظر إلى حلم الله عز وجل يحرقون أولياءه، ثم يعرض عليهم التوبة يقول: {إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا}.
قال العلماء: {فتنوا} بمعنى أحرقوا كما قال تعالى: {يوم هم على النار يفتنون. ذوقوا فتنتكم هذا الذي كنتم به تستعجلون} [الذاريات: 13، 14]. فهؤلاء أحرقوا المؤمنين وأحرقوا المؤمنات في النار.
وقيل: فتنوهم أي صدوهم عن دينهم. والصحيح: أن الآية شاملة للمعنيين جميعاً، لأنه ينبغي أن نعلم أن القرآن الكريم معانيه أوسع من أفهامنا، وأنه مهما بلغنا من الذكاء والفطنة فلن نحيط به علماً، والقاعدة في علم التفسير أنه إذا كانت الآية تحتمل معنيين لا مرجح لأحدهما عن الآخر ولا يتضادان فإنها تحمل عليهما جميعاً، فنقول: هم فتوا المؤمنين بصدهم عن سبيل الله، وفتنوهم بالإحراق أيضاً. {ثم لم يتوبوا} أي يرجعوا إلى الله من معصيته إلى طاعته {فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق} لأنهم أحرقوا أولياء الله فكان جزاؤهم مثل عملهم جزاء وفاقاً. وشتان بين نار الدنيا ونار الآخرة فقد فضلت على الأولى بتسعة وتسعين جزءاً .
في هذه الآيات من العبر: أن الله سبحانه وتعالى قد يسلط أعداءه على أوليائه، فلا تستغرب إذا سلط الله عز وجل الكفار على المؤمنين وقتلوهم وحرقوهم، وانتهكوا أعراضهم، لا تستغرب فلله تعالى في هذا حكمة، المصابون من المؤمنين أجرهم عند الله عظيم، وهؤلاء الكفار المعتدون أملى لهم الله سبحانه وتعالى ويستدرجهم من حيث لا يعلمون، والمسلمون الباقون لهم عبرة وعظة فيما حصل لإخوانهم، فمثلاً نحن نسمع ما يحصل من الانتهاكات العظيمة، انتهاك الأعراض، وإتلاف الأموال، وتجويع الصغار والعجائز، نسمع أشياء تبكي، فنقول: سبحان الله ما هذا التسليط الذي سلطه الله على هؤلاء المؤمنين؟ نقول يا أخي لا تستغرب فالله سبحانه وتعالى ضرب لنا أمثالاً فيمن سبق يحرقون المؤمنين بالنار، فهؤلاء الذين سلطوا على إخواننا في بلاد المسلمين هذا رفعة درجات للمصابين، وتكفير السيئات، وهو عبرة للباقين، وهو أيضاً إغراء لهؤلاء الكافرين حتى يتسلطوا فيأخذهم الله عز وجل أخذ عزيز مقتدر.
وفي هذه الايات من العبر: أن هؤلاء الكفار لم يأخذوا على المسلمين بذنب إلا شيئاً واحداً وهو: أنهم يؤمنون بالله العزيز الحميد، وهذا ليس بذنب، بل هذا هو الحق، ومن أنكره فهو الذي ينكر عليه، نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينصر المسلمين في كل مكان، وأن يقينا شر أعدائنا، وأن يجعل كيدهم في نحورهم إنه على كل شيء قدير.
وفي الآية إشارة إلى أن التوبة تهدم ما قبلها، ولكن التوبة لا تكون توبة نصوحاً مقبولة عند الله إلا إذا اشتملت على شروط خمسة:
الأول: الإخلاص لله عز وجل بأن يكون الحامل للإنسان على التوبة خوف الله عز وجل ورجاء ثوابه؛ لأن الإنسان قد يتوب من الذنب من أجل أن يمدحه الناس، أو من أجل دفع مذمة الناس له، أو من أجل مرتبة يصل إليها، أو من أجل مال يحصل عليه، كل هؤلاء لا تقبل توبتهم، لأن التوبة يجب أن تكون خالصة، وأما من أراد بعمله الدنيا فإن الله تعالى يقول في كتابه: {من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون. أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار}. [هود: 15، 16].
الثاني: من شروط كون التوبة نصوحاً: الندم على ما حصل من الذنب بمعنى ألا يكون الإنسان كأنه لم يذنب، لا يتحسر ولا يحزن، لابد أن يندم، إذا ذكر عظمة الله ندم، كيف أعصي ربي وهو الذي خلقني ورزقني وهداني، فيندم.
الثالث: أن يقلع عن الذنب فلا تصح التوبة مع الإصرار على الذنب، لأن التائب هو الراجع، فإذا كان الإنسان يقول: أستغفر الله وأتوب إليه من أكل الربا، ولكنه لايزال يرابي فلا تصح توبته، لو قال: أستغفر الله من الغيبة، والغيبة ذكرك أخاك بما يكره ولكنه في كل مجلس يغتاب الناس فلا تصح توبته، كيف تصح وهو مصر على المعصية، فلابد أن يقلع، إذا تاب من أكل أموال الناس وقد سرق من هذا، وأخذ مال هذا بخداع وغش فلا تصح توبته، حتى يرد ما أخذ من أموال الناس إلى الناس، لو فرضنا أن شخصاً أدخل مراسيمه في ملك جاره واقتطع جزءًا من أرضه وقال إني تائب، فنقول له: رد المراسيم إلى حدودها الأولى وإلا فإن توبتك لا تقبل، لأنه لابد من الإقلاع عن الذنب الذي تاب منه.
الشرط الرابع: أن يعزم عزماً تاماً ألا يعود إلى الذنب، فإن تاب وهو في نفسه لو حصل له فرصة لعاد إلى الذنب فإن توبته لا تقبل، بل لابد أن يعزم عزماً أكيداً على ألا يعود.
الشرط الخامس: أن تكون التوبة في وقت تقبل فيه التوبة، لأنه يأتي أوقات لا تقبل فيها التوبة، وذلك في حالين:
الحال الأولى: إذا حضره الموت فإن توبته لا تقبل لقول الله تبارك وتعالى: {وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن} [النساء: 18]. بعدما عاين الموت وشاهد العذاب يقول تبت فلا ينفع هذا، ومثال واقع لهذه المسألة أن فرعون لما أدركه الغرق قال آمنت بالذي آمنت به بنوا إسرائيل يعني بالله ولم يقل آمنت بالله إذلالاً لنفسه حيث كان يحارب بني إسرائيل على الإيمان بالله، والآن يقول آمنت بالذي آمنوا به فكأنه جعل نفسه تابعاً لبني إسرائيل إلى هذا الحد بلغ به الذل ومع ذلك قيل له الآن تتوب، آلان تؤمن بالذي آمنت به بنوا إسرائيل {الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين} [يونس: 91]. إذاً إذا حضر الموت فإن التوبة لا تقبل، فلابد من المبادرة بالتوبة لأنك لا تدري في أي وقت يحضرك الموت، ألم تعلم أن من الناس من نام على فراشه في صحة وعافية ثم حمل من فراشه إلى سرير تغسيله؟! ألم تعلم أن بعض الناس جلس على كرسي العمل يعمل ثم حمل من كرسي العمل إلى سرير الغسل؟! كل هذا واقع، لذا يجب أن تبادر بالتوبة قبل أن تغلق الأبواب.
الحال الثانية : إذا طلعت الشمس من مغربها، فإن الشمس إذا طلعت من مغربها ورآها الناس آمنوا لأن الله يقول : )يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً)(الأنعام: من الآية158). والمراد ببعض الآيات طلوع الشمس من مغربها



ح ـلــم غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 09-13-2011, 10:06 AM   #72
 
الصورة الرمزية ح ـلــم
افتراضي رد: وقفــ ـ ـ ـ ــات إيمانيه مع آيـات الذكر الحكيم .. شاركونـــا ( متجدد )

إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّـلِحَـتِ لَهُمْ جَنَّـتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاَْنْهَـرُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ * إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ * إِنَّهُ هُوَ يُبْدِىءُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ * هَلُ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ * فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِى تَكْذِيبٍ * وَاللَّهُ مِن وَرَآئِهِمْ مُّحِيطٌ * بَلْ هُوَ قُرْءَانٌ مَّجِيدٌ * فِى لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ}.
ثم لما ذكر عقاب المجرمين ذكر ثواب المؤمنين، وهذه هي طريقة القرآن في عرض الترغيب والترهيب، والقرآن الكريم مثاني، تذكر فيه المعاني المتقابلة، فيذكر فيه عذاب أهل النار ونعيم أهل الجنة، صفات المؤمنين وصفات الكافرين، من أجل أن يكون الإنسان سائراً إلى الله تعالى بين الخوف والرجاء، فيعرف نعمة الله عليه بالإسلام، ويعرف حكمة الله تعالى في وجود هؤلاء الكافرين المجرمين. ويزداد حذرا من ذلك {إن الذين آمنوا} هم الذين آمنوا بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره فإن هذا هو الإيمان كما فسره النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حين سأله جبريل عن الإيمان فقال: «أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره»(87)، وأما قوله: {وعملوا الصالحات} فالمراد عملوا الأعمال الصالحة، والأعمال الصالحة هي التي بنيت على الإخلاص لله، واتباع شريعة الله، فمن عمل عملاً أشرك به مع الله غيره فعمله مردود عليه؛ لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما يرويه عن ربه أنه تعالى قال: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه»(88).

وأما المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فإن من عمل عملاً ليس على شريعة الله فإنه باطل مردود، لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد»(89)، وبناء على ذلك تكون عبادة المرائي الذي يعبد الله لكن يرائي الناس أي يظهر العبادة ليراه الناس فيمدحوه وهو لا يريد التقرب إلى الناس، يريد التقرب إلى الله لكن يريد أن يمدحه الناس على تقربه إلى الله وعبادته لله فهذا مراءٍ وعمله مردود أيضاً، كذلك من تكلم بكلام قرآن أو ذكر ورفع صوته ليسمعه الناس فيمدحوه على ذكره لله فهذا أيضاً مراءٍ، عمله مردودٌ عليه؛ لأنه أشرك فيه مع الله غيره، أراد أن يمدحه الناس على عبادة الله، أما من تعبد للناس فهذا مشرك شركاً أكبر يعني من قام يصلي أمام شخص تعظيماً له، لا لله، وركع للشخص وسجد للشخص فهذا مشرك شركاً أكبر مخرجاً عن الملة، ومن ابتدع في دين الله ما ليس منه كما لو رتب أذكاراً معينة في وقت معين فإن ذلك لا يقبل منه، حتى ولو كان ذكر الله لو كان تسبيحاً، أو تحميداً، أو تكبيراً، أو تهليلاً ولكنه رتبه على وجه لم ترد به السنة فإن ذلك ليس مقبولاً عند الله عز وجل؛ لأنه عمل عملاً ليس عليه أمر الله ورسوله، فالمهم أن الله اشترط مع الإيمان العمل الصالح، وبهذا نعرف أنه لا ينبغي لنا أن نركز دائماً على العقيدة، ونقول: نحن على العقيدة الإسلامية وعلى كذا، وعلى كذا، ولا نذكر العمل؛ لأن مجرد العقيدة لا يكفي لابد من عمل، فينبغي عندما تذكر أننا على العقيدة الإسلامية ينبغي أن تقول ونعمل العمل الصالح؛ لأن الله يقرن دائماً بين الإيمان المتضمن للعقيدة وبين العمل الصالح، حتى لا يخلو الإنسان من عمل صالح، أما مجرد العقيدة فلا ينفع لو أن الإنسان يقول أنا مؤمن بالله لكن لا يعمل فأين الإيمان بالله؟ ولهذا كان القول الراجح من أقوال العلماء أن تارك الصلاة كافر كفراً مخرجاً عن الملة وقد بينا أدلة ذلك في رسالة لنا صغيرة، يغني عن إعادتها هنا. {لهم جنات تجري من تحتها الأنهار} {لهم} يعني عند الله {جنات تجري من تحتها الأنهار} وذلك بعد البعث فإنهم يدخلون هذه الجنات التي فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ولهذا قال الله تعالى: {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون} [السجدة: 17]. وقال الله في الحديث القدسي: «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر»(90). لأن فيها من النعيم ما لا يتصوره الإنسان والله تعالى يذكر في الجنات: نخلاً، ورماناً، وفاكهةً، ولحمَ طير، وعسلاً، ولباًن، وماءً، وخمراً، لكن حقائق هذه الأشياء ليست كحقائق ما في الدنيا أبداً، لأنها لو كانت حقائقها كحقائق ما في الدنيا لكنا نعلم ما أخفي لنا من هذا، ولكنها أعظم وأعظم بكثير مما نتصوره، فالرمان وإن كنا نعرف معنى الرمان، ونعرف أنه على شكل معين، وطعم معين، وذو حبات معينة، لكن ليس الرمان الذي في الآخرة كهذه فهو أعظم بكثير، لا من جهة الحجم، ولا من جهة اللون، ولا من جهة المذاق، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: (ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إلا الأسماء فقط)(91)، أما الحقائق فهي غير معلومة. وقوله: {تجري من تحتها الأنهار} قال العلماء: {من تحتها} أي من تحت أشجارها وقصورها وإلا فهي على السطح فوق، ثم هذه الأنهار جاء في الأحاديث أنها لا تحتاج إلى حفر ولا تحتاج إلى بناء أخدود(92)، وفي هذا يقول ابن القيم في النونية:

أنهارها في غير أخدود جرت


سبحان ممسكها عن الفيضان

الأنهار في المعروف عندنا تحتاج إلى حفر، أو إلى أخدود تمنع من تسرب الماء يميناً وشمالاً، لكن في الجنة لا تحتاج إلى أخدود، تجري حيث شاء الإنسان، يعني يوجهها كما شاء بدون حفر، وبدون إقامة أخدود، والأنهار في هذه الآية وفي آيات كثيرة مجملة لكنه فصلت في سورة القتال ـ سورة محمد ـ قال: {مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى} [محمد: 15]. {ذلك الفوز الكبير} {ذلك} المشار إليه الجنات وما فيها من النعيم {الفوز الكبير} يعني الذي به النجاة من كل مرهوب وحصول كل مطلوب؛ لأن الفوز هو عبارة عن حصول المطلوب وزوال المكروه، والجنة كذلك فيها كل مطلوب، وقد زال عنها كل مرهوب، فلا يذوقون فيها الموت، ولا المرض، ولا السقم، ولا الهم، ولا النصب. ثم قال تعالى: {إن بطش ربك لشديد} {بطش} يعني أخذه بالعقاب ، والشديد القوي كما قال تعالى : )اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (المائدة:98) فبطش الله يعني أنتقامه وأخذه شديد عظيم ولكنه لمن يستحق ذلك أما من لا يستحق ذلك فإن رحمة الله تعالى أوسع ، ما أكثر ما يعفو الله عن الذنوب وما أكثر ما يستر من العيوب، ما أكثر ما يدفع من النقم، وما أكثر ما يجري من النعم، لكن إذا أخذ الظالم لم يفلته كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته»، وتلى قوله تعالى: {وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد}(93){هود : 102}، وعلى هذا فنقول: {بطش ربك} أي فيمن يستحق البطش، أما من لا يستحقه فإن الله تعالى يعامله بالرحمة، ويعامله بالكرم، ويعامله بالجود، ورحمة الله تعالى سبقت غضبه {إنه هو يبدىء ويعيد} {الروم : 27} يعني أن الأمر إليه ابتداء وإعادة وهذا كقوله تعالى: {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده} فهو الذي بدأ الأشياء، وإليه تنتهي الأشياء، الأشياء منه وإليه في كل شيء، الخلق من الله وإليه، الشرائع من الله وإليه، كل الأمور من الله وإليه، ولهذا قال {يبدأ} ولم يذكر ما الذي يبدؤه، فمعناه {يبدأ} كل شيء، ويعيد كل شيء، فكل الأمر بيده عز وجل، فاعرف أيها العبد من أين أنت، وأنك ابتدأت من عدم، واعرف منتهاك وغايتك، وأن غايتك إلى الله عز وجل {وهو الغفور الودود} {الغفور} يعني ذو المغفرة، والمغفرة ستر الذنب والعفو عنه فليست المغفرة ستر الذنب فقط بل ستره وعدم المؤاخذة عليه كما جاء في الحديث الصحيح: «إن الله يخلو بعبده المؤمن يوم القيامة ويقرره بذنوبه حتى يقربها ويعترف فيقول الله عز وجل: قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم»(94)، ويُذكر أن بني إسرائيل كانوا إذا أذنب الواحد منهم ذنباً وجده مكتوباً على باب بيته فضيحة وعاراً(95)، لكننا نحن ولله الحمد قد ستر الله علينا، فعلينا أن نتوب إلى الله ونستغفره من الذنب فتمحى آثاره، ولهذا قال: {وهو الغفور} أي الساتر لذنوب عباده المتجاوز عنها. {الودود} مأخوذة من الود، والود هو خالص المحبة فهو جل وعلا ودود، ومعنى ودود أنه محبوب وأنه حاب، فهو يشمل الوجهين جميعاً، قال الله تبارك وتعالى: {يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه} [المائدة: 54]. فهو جل وعلا واد يحب الأعمال، ويحب الأشخاص، ويحب الأمكنة وهو كذلك أيضاً محبوب يحبه أولياؤه {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} [آل عمران: 31]. فكلما كان الإنسان أتبع لرسول الله صلى الله عليه وسلّم كان أحب إلى الله، فهو جل وعلا وادٌ وهو أيضاً مودود، أي أنه يُحِب ويُحَب، يِحب سبحانه وتعالى الأعمال ويحب العاملين، ويحب الأشخاص يعني أن محبة الله قد تتعلق بشخص معين مثل قول الرسول عليه الصلاة والسلام في يوم خيبر: «لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله» فبات الناس ثم غدوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم كلهم يرجوا أن يُعطاها فقال: «أين علي بن أبي طالب»؟ قالوا: يشتكي عينيه فدعا به فأتى فبصق في عينه فبرأ كأن لم يكن به وجع في الحال، ثم أعطاه الراية وقال: «انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام»(96). الشاهد قوله: (يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله) فهنا أثبت أن الله يحب هذا الرجل بعينه علي بن أبي طالب، ولما بعث النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً على سرية صار يقرأ لهم في الصلاة ويختم القراءة بـ{قل هو الله أحد} فلما رجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلّم أخبروه بذلك، لأن عمله هذا وهو أنه يختم القراءة بـ {قل هو الله أحد} غير معروف، فقال: «سلوه لأي شيء كان يصنع ذلك»؟ فسألوه فقال: إنها صفة الله وأنا أحب أن أقرأها. فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «أخبروه أن الله يحبه»(97)، فهنا المحبة علقت بشخص معين يحبه الله، وقد تكون محبة الله بمعينين بأوصافهم مثل: {إن الله يحب المتقين} {إن الله يحب المحسنين} {إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفًّا كأنهم بنيان مرصوص} [الصف: 4]. هذها ليست في شخص معين لكن في شخص موصوف بصفة، كذلك يحب الله سبحانه وتعالى الأماكن «أحب البقاع إلى الله مساجدها»(98)، وأخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن مكة أحب البقاع إلى الله(99) هذه المحبة متعلقة بالأماكن فالله تعالى يُحِب ويُحَب ولهذا قال: {وهو الغفور الودود}. ثم بين عظمته وتمام سلطانه في قوله: {ذو العرش} أي صاحب العرش، والعرش هو الذي استوى عليه الله عز وجل، وهو أعظم المخلوقات وأكبرها وأوسعها، وقد جاء في الأثر أن السماوات السبع والأراضين السبع بالنسبة إلى الكرسي كحلقة ألقيت في فلاة في الأرض، وأن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على هذه الحلقة(100)، حلقة الدرع صغيرة ألقيت في فلاة من الأرض ليست بشيء بالنسبة لها، «وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على هذه الحلقة»، إذن لا أحد يقدر سعته، وإذا كنا نشاهد من المخلوقات المشهودة الآن التباين العظيم في أحجامها. ولقد أطلعني رجل على صورة الشمس وصورة الأرض، فوجدت أن الأرض بالنسبة لهذه الشمس كنقطة غير كبيرة في صحن واسع كبير، وأنها لا تنسب إلى الشمس إطلاقا، فإذا كان هذا في الأشياء المشهودة التي تدرك بالتلسكوب وغيره فما بالك بالأشياء الغائبة عنا لأن ما غـاب عنا أعظم مما نشاهد قال الله تعالى: {وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً} [الإسراء: 85]. فالحاصل أن العرش هو سقف المخلوقات كلها، عرش عظيم استوى عليه الرحمن ـ جل وعلا ـ كما قال تعالى: {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5]. وقوله: {المجيد} فيها قراءتان (المجيدِ) و(المجيدُ) فعلى القراءة الأولى تكون وصفاً للعرش، وعلى الثانية تكون وصفًّا للرب عز وجل، وكلاهما صحيح فالعرش مجيد، وكذلك الرب عز وجل مجيد، ونحن نقول في التشهد إنك حميد مجيد. {فعال لما يريد} هذا وصف لله تعالى بأنه الفعال لما يريد فكل ما أراده سبحانه فهو يفعله ، ولا يمنعه من فعله مانع ؛ لأن له ملك السموات والأرض ، ولا يمنعه أحد من أن يفعل في ملكه ما يشاء ؛ وهذا كقوله تعالى : ) وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاء)(ابراهيم: من الآية27) فالخلق كلهم مهما كانوا لا يستطيعون أن يفعلوا ما يشاءونه. بل قد يريدون الشيء إرادة جازمة ، ولكن إذا لم يرد الله أن يقع منهم ذلك الشيء صرفهم الله عن فعله ، ومنعهم منه ، وحال بينهم وبين تنفيذه ، أما الرب تبارك وتعالى فإنه فعال لما يريد ، فإذا أراد شيئاً قال له كن فيكون ، ففي هذه الآية الكريمة إثبات إرادة الله إرادة كاملة تامة في خلقه وفيما يتعلق بأفعال الخلق ، فلا يكون فعل من الناس إلا بإرادة الله ، كما قال سبحانه : )لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ*وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (التكوير 28-29). فبين الله سبحانه في هذه الآية أن مشيئة العباد مرتبطة بمشيته هو سبحانه ، كما قال : ) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ)(البقرة: من الآية253) فإرادة الله شاملة لما يكون من فعله ، ولما يكون من فعل العباد وأضرب لكم مثلاً بذلك : فأنا لو تكلمت بكلامي هذا أو بغيره أو ما سبقه من الكلام ، فكل كلامي كائن بإرادة الله ، ولو شاء الله ألا أتكلم ما تكلمت ولعجزت عن الكلام وإذا شاء ان اتكلم تكلمت فتنبعث من قلبي إرادة للكلام فأتكلم . ولهذا قال سبحانه وتعال : )فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ) (البروج:16) ، ثم قال تعالى: )هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ) (البروج:17)
والخطاب هنا موجه لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل من يصح أن يتوجه إليه بالخطاب ، والاستفهام للتنبيه. لأن الشيء إذا جاء بالاستفهام انتبه له الإنسان أكثر (الجنود) جمع جند وهو هنا مبهم لكنه فسره بقوله : )فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ) (البروج:18)يعني هل أتاك خبرهم ، ؟ والجواب نعم ، أتانا خبرهم فقد قص الله سبحانه وتعالى علينا من نبأ فرعون ونبا ثمود ما فيه العبرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد . فقصة فرعون ذكرها الله تعالى في آيات كثيرة وفي سور متعددة كمقدمة بين يدي سلف موسى عليه السلام وكما هو معروف أن موسى مبعوث لبني اسرائيل ، وقص الله سبحانه على رسول الله صلى الله عيله وسلم من نبأ موسى عليه السلام مالم يقصه من نبأ غيره، لأن النبي صلى الله عليه وسلم سوف يكون مهاجره إلى المدينة التي بها ثلاث قبائل من اليهود ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم من نبأهم الشيء الكثير من أجل أن يكون على استعداد لمناظرتهم ومجادلتهم بالحق حتى لا يخفى عليه من أمرهم شيء



ح ـلــم غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس

إضافة رد





الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة


المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
الحائك الحكيم الرهيب منتدى بني بحير بلقرن للقصص والروايات 2 06-19-2015 04:49 PM
همسات إيمانيه الرهيب المواضيع الاسلامية 0 03-27-2015 09:27 AM
لقمان الحكيم الرهيب قصص الانبياء و سيرة الصحابة والتابعين 10 04-24-2012 04:34 PM
انـوآااع ~ الگيــت گــات ~ واحنا يآ حظي مآفي إلآ نوع وآحد :) عـ القناص ـزوز الاحتفالات والتصوير والغرائب 14 01-02-2010 07:45 PM

Rss  Rss 2.0  Html  Xml  Sitemap  دليل المنتديات


الساعة الآن 04:41 AM


Powered by vBulletin® Version 3.8.7
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.
Content Relevant URLs by vBSEO 3.6.0 PL2
ارشفة ودعم SALEM ALSHMRANI
F.T.G.Y 3.0 BY: D-sAb.NeT © 2011
جميع الحقوق محفوظة لمنتديات بني بحير بلقرن

1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75